بين قصيدته الأولى والأخيرة، قرابة 35 عاماً، قضاها الشاعر اليمني منصور راجح في مكابدات الغربة والانكسار والحلم، مكللا بالعمر المشحون بالمواجع والفجائع والفقد.
على أن راجح ما زال ينتصب في وجه الريح بقامته النحيلة والعنيدة، فلقد تحدى غشم وجبروت السلطة التي اعتقلته ونكلت به، واصدرت بحقه حكم اعدام بسبب نشاطه السياسي؛ ولذلك قضى أكثر من 15 عاماً، باعتباره سجين رأي في زنزانة نظام علي عبد الله صالح، قبل أن ينتقل منذ قرابة 20 عاماً للعيش في النروج كلاجئ. عانى منصور كافة أنواع القهر والبطش منذ 1983 حتى 1998، ولقد تدخلت المنظمات الحقوقية العالمية لإطلاق سراحه، ليرحل من السجن إلى سلم الطائرة مباشرة…
“هنا الأمور تسيرُ كما ينبغي!
لا عصيان ولا استكانة
وكل شيء في مكانه
الأشجار،
الجسور والأنفاق والاقفال
براميل القمامة والناس،
الأشياء الفائضة عن الحاجة في أماكنها،
السماء
العواطف المحسوبة بدقة والمشاعر
حتى أنا أمشي كما ينبغي
لا عصيان ولا استكانة”
في العام 1958 ولد منصور راجح في منطقة “ماوية” التابعة لمحافظة تعز (جنوب غرب)، لعائلة من الفلاحين “لها علاقة خاصة بالمطر، وليست علاقة بالحياة فقط”! لكن منصور الذي عرف بعصاميته، عارك الحياة منذ وقت مبكر، إذ انتقل إلى المدينة طفلا مع والده وأخيه الأكبر-نهاية ستينيات القرن الماضي- حيث صارت المدن قبلة أبناء الريف عقب قيام الجمهورية.
تعرف عن طريق والده على السياسة والتصوف. فيما كان حينها لم يتعد الثانية عشرة من عمره. آنذاك كانت مدينة “القاعدة” الواقعة بين محافظتي تعز وإب، محطة أولى للإنتقال للمدينة الأكبر والأهم، صنعاء. وهناك انخرط في حلقات حزبية يسارية؛ بينما كان العمل الحزبي سريا، والسرية كما يعرفها “عنت التفكير وسرعة البديهة والتصرف”. هناك أيضا؛ حسب قوله “شكل الحزب عالمي الحميم الغامض بكتبه الممنوعة، والاجتماعات السرية، والبحث المضني عن أماكن لهذه الاجتماعات”. تعرف على” الأدب الروسي والشعر العربي من أوسع أبوابه متدفقا من بيروت “.
بعدها انتقل إلى صنعاء صار”حزبيا يقارع السلطة في عقر دارها، والسلطة خوف واحتيال على الخوف بالسرية والقراءة والمنشور والتنظيم والكتابة”، وقرأ اسمه منشوراً لأول مرة في صفحة جريدة، كما انصقل وعيه أكثر من خلال النشاط الأدبي، وشيئا فشيئا تعرف على بيروت، والمعترك السياسي والفكري والحب كذلك، ليقرر أن ينتقل للدراسة فيها، وسريعا انتخب سكرتيراً للمنظمات الطلابية العربية هناك.
وفي بيروت الملهمة.. كان لقاؤه برفيقة دربه، زميلته في الدراسة أفراح غليون، ثم على إثر حصار بيروت، عادا إلى اليمن، وكان على موعد مع الزفاف والسجن وحكم الإعدام، فضلا عن 15 عاما من الأسى وفظاعة النظام الهمجي. ويا لها من مفارقة تلك التي كانت تنتظر حبيب “أفراح” الحالم؛ حيث “الأتراح” فقط هي ما كانت تلوح في الأفق! فبعد يومين من زفافهما، أعتقله الأمن، ليظل فيه ستة أشهر بلا تهمة، قبل أن يطلق سراحه. وبعد هذه التجربة بأيام قليلة تكرر اعتقاله. فضلا عن ذلك تم اعتقال والده وعمه أيضا.
أما النظام، فقد قد قرر تلفيق تهمة قتل شيخ في قرية منصور ضده، لتصدر عقوبة الإعدام عليه العام 1984 من دون أبسط الحقوق والمعايير؛ بل ان الخلفيات السياسية للحكم كانت أكبر من شرعيته القانونية… يقول منصور: “هكذا وفي لحظة وجدت نفسي وجها لوجه مع قوى العمى الأزلي، واياديها الصلدة تخطفني من حضن عروسي وحضن أمي التي لم أرها سعيدة منذ فتحت عينيّ على الدنيا بمثل ما رأيتها ليومين قبل أن يجيئوا. قتلوا الشيخ وأطلقوا على حياتي جثته. وكان صراخ سوسن اختي لحظة اخذوني من البيت يملأ الأفق والزمان. منذ تلك اللحظة وهو يخترقني.. وها هو ذا ما زال يهدمني ويبعثر معناي.. الشعر هو محاولاتي اليومية لأن ألم نفسي بعيدا عن تلكم الصرخة… لا أدري أي شعر يمكن أن يجد لنفسه معنى من دون ذلكم العويل”!
“واقف بين احتمالين
يتشاكلان في وجعك
كضحكتين لاتملك نسيانهما
أولاهما لامك
والأخرى لجلاد قبل أن ينفض
من تهشيم عظمك”
الثابت أن منصور عندما حدثت الجريمة، كان بعيداً عن مسرحها وحاضرا بين جمع من الشهود في مكان آخر وهناك علم مع غيره بنبأ الحادث… ويحسب لمنظمة العفو الدولية انها اعتبرت منصور “سجين ضمير”. ونظمت -وتصدرت- حملات دولية لإطلاق سراحه، والشاهد ان منصور اعتقل لأنه كان منخرطا في حركة وطنية استهدفت نظام التسلط والاقطاع، وهذه الحركة دخلت في صدام عنيف مع السلطة في الشمال قبل الوحدة، حيث كانت محسوبة على الجنوب والحزب الاشتراكي.
لكن من يصدق أن الشاعر أطلق سراحه مقابل قرض دولي؟ هذا ما كشفه الكاتب أوجين شولجن، مسؤول منظمة P.E.N المدافعة عن الكتّاب السجناء في العالم، وهو عضو اتحاد كتاب النروج أيضا، إذ قال عقب زيارته لمنصور في سجنه: “لقد حافظ منصور على البقاء خمسة عشر عاما حيا في هذا الجحيم. في ذلك اليوم من العام 1997 عندما جئناه كان فقط أربعين كيلو.. هذا ما تبقى منه.. كنا وفداً من الـPEN وإتحاد كتاب النروج، قدمنا من الدنمارك، ايسلندا، المغرب، فلسطين، السويد، الأردن.. قابلنا منصور بابتسامة حذرة: أين أفراح؟… تلاشت الابتسامة.. أفراح لم تكن معنا. أفراح هي زوجة منصور التي كافحت بلا كلل من أجل إطلاق سراحه حرا كل هذه السنوات.. الجميع أكد له بأننا سنخرجه من السجن. شرحنا له زياراتنا إلى المتنفذين وذوي السلطة في صنعاء. هل كنا نؤمن بذلك؟ كنا نريد أن نؤمن.. هل آمن منصور بذلك؟. قال: اعملوا ما تستطيعون. الموت أفضل من البقاء هنا. الحرية أو الموت. سيأخذ الأمر عاما آخر من الأخذ والرد في أروقة وزارة الخارجية وبروكسل.. احتاجت اليمن إلى قرض من الاتحاد الأوروبي. قلنا: قرض مقابل شاعر.. شعارنا. في يوم ما هبط منصور وأفراح في مطار استافنجر (مدينة نروجية في الجنوب). منصور اصبح حرا. ياه.. منصور اصبح خارج السجن.. أخذ معه أفراحه وشعره. تعين عليه أن يستبدل جحيما بآخر نفسي. حالا سيكون عليه أن يعرف معنى أن يكون المرء منفيا”..
أحبُ
حفيف السنابل
في عناقها الريح
وأحب أن اراكِ
مقبلة
أحبُ
وشوشة العشاق
في آذان بعضهم
وأحبُ أن أسمع
كلماتك النابية
في لحظة غضب
احبُ
ذكرياتي معكِ
هذا شوق يهزم الاحزان
ارفع رأسي الآن
كي اتطلع في افقك.
في العام 2000 رزق منصور وافراح بنجلهما الوحيد محمد. ومنذ خروج منصور لا يستطيع العودة لليمن. إلا أن عشقه لليمن ظل يتوهج في كتاباته المعارضة للنظام، مركزا على كشف عقلية القوى التي تعيق التغيير في اليمن، وكذا تفكيك الوعي الزائف.
وفي 2011؛ وبعد إندلاع الثورة الشبابية الشعبية السلمية، تحدث لشباب ساحة الحرية في مدينة تعز… حينها حث منصور على النقطة الضرورية، وهي تلاحم الصف الوطني، حتى لا تستغل قوى الثورة المضادة فرصتها المناسبة للانقضاض على الثورة؛ وهو يرى في فعل الثورة “هذا الحراك بإتجاه إعادة تعريف الكيان الوطني لليمنيين على أسس تستوعب كامل متغيرات الحياة في البلد وفي العالم”، معتبرا أن “أخطر خطر على الثورة، أي ثورة، هو قصر النظر، وضيق النفس”. وحتى الآن مايزال قريبا من التحولات العصيبة التي تعيشها اليمن منذ إندلاع الثورة.
على انه بعد تجربة السجن والمنفى، يقول عن تلك المسارات الدرامية التي صاغت حياته: “لقد كان عليّ أن أبدأ حياتي هنا، مما هو تحت الصفر تماما، على مستوى التكوين المادي للإنسان، أي إنسان”؛ مضيفا “كان السجن محاولة لتحطيمي وتحويلي إلى عبرة لمن يعتبر”..
منصور المنفي من اليمن.. صار نجما مشعا وحزينا في الأدب النروجي، كما صار يحتفى به، كقيمة كفاحية تنطوي على تجربة استثنائية، وحساسية شعرية خاصة أيضا… لكن في الحقيقة، يكابد منصور غربته المضاعفة؛ في الصقيع البعيد؛ بينما يتخلله كامل الاشتياق لتلمس حالة الدفء داخل الوطن…
“هذه اﻻشجار تخايل نفسها
والقلب يأكله الحنين
لاحياة في المنفى
لاصدى للصوت
والشعر يخرج من يديك
إلى دفء اليمن”
2016 أصدر منصور مجموعته الشعرية السادسة “ماوية حتى الغياب” بعد مجموعاته المتتالية بالعربية والنروجية، منذ العام 2000: “مدار السجن مدار الوطن” و”قريب بعيد” و”أوجاع الرماح” و”هبوط الفراشة” و”ربيع الريح”.