ثمة تجارب مميزة للنجاح، يجبرك تميزها على الوقوف معها، وتفحص ملامحها على أكثر من صعيد، وتجربة الناقد اليمني الشاب الأربعيني فتحي الشرماني جديرة بالكشف ودافعة للاعتراف بجوانبها العلمية السامقة في النقد الأدبي الذي يعد إشكالية تخصصية من بين العلوم الإنسانية، لكن الباحث الجاد الشغوف بتخصصه، بمقدوره أن يثبت جدارته بعمق ويقدم نفسه بصورة ملفتة وجذابة بنشاطه المعرفي، وطرحه العلمي، وأبحاثه الجادة التحديثية التي تصنع لصاحبها حضوراً مرموقاً وشأناً معرفياً في زمن الانكسار والخيبة والخذلان.
كانت بداياته مصححاً لغوياً في مؤسسة الجمهورية للصحافة والطباعة والنشر في مطلع العام 2007، ثم رئيساً لقسم التصحيح والتدقيق اللغوي في المؤسسة ذاتها 2011م، لكنه لم يترك طموحه العلمي والتحاقه بالدراسات العليا الذي شيد أول لبنة في بنيانها بحصوله على الماجستير في النقد الأدبي عن رسالته الموسومة ب” البناء الفني في شعر مذحج قبل الإسلام” 2009، من جامعة تعز.
والعنوان يشير إلى أن الباحث يطرق موضوعات ذات أهمية علمية وأبعاد فكرية ثقافية ووطنية تتعلق بالتراث الأدبي لجغرافية اليمن في عصرها القديم، ثم كان التميز رفيقاً لهذا الشاب الفتي الذي حصل على دكتوراة فلسفة من جامعة تعز في اللغة العربية وآدابها 2016، عن أطروحته العلمية الموسومة ” دينامية النسق الثقافي في القصيدة الجاهلية”، ورغم أن موضوعها الأدب الجاهلي إلا أن تناولها كان بمنهج النقد الثقافي الذي يعد أحدث مناهج النقد الأدبي ظهوراً في البحث العلمي التخصصي.
والملفت للنظر أن رائد هذا المنهج وهذه النظرية الناقد السعودي الشهير/ عبدالله الغذامي قد علق على هذه الأطروحة في مقدمتها حين أُخرجت في كتاب، فيما يتعلق بنقطة الافتراق بين النقد الأدبي والنقد الثقافي الذي أتبعه الشرماني في موضوعه بقوله:” الذي أسعدني بهذا الكتاب أنه طرح هذا السؤال بصيغة هادئة ورزينة ولم يقله بلفظه فحسب، بل قاله بفعله وبمقارناته، وهو هنا يقدم بحثاً مهماً في سؤال تاريخ المعرفة وسيرة المقولات، وأرى أن مدخل الكتاب بحد ذاته هو بحث متطور في النظرية بما إنه يضع المعاني قبالة الكلمات، ويترك للقارئ أن يتبصر طريقه، وسيظل هذا الكتاب أثيراً عندي وقريباً لإحالاتي؛ لأنه تولى سؤال النظرية بطريقة عملية كاشفة.
ويسجل الدكتور الشرماني اسمه في لوحة شرف المعرفة بوصفه باحثاً وضع السؤال النظري في موضعه، وجعله في صميم بحثه”، فماذا عسانا أن نقول بعد ما قاله الغذامي عن هذا البحث المتميز.
ورغم تعيينه أستاذاً مساعداً في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة تعز في العام 2017، إلا أنه لم يخلد إلى السبات والاسترخاء كما هي عادة كثير من الأكاديميين في الجامعات اليمنية، بل بدأ مرحلة جديدة من مشوار البحث العلمي وإنجاز الأبحاث العلمية ذات الكفاءة العميقة، والقيمة المعرفية المعتبرة، التي تنم عن تنوع موضوعي ومنهجية جديدة تفصح عن ناقد أكاديمي مغاير، وعقلية بحثية مختلفة.
من تلك الأبحاث المنشورة التي نشرت للشرماني:
“تمثيلات الأنوثة في مراثي الخنساء” المجلة العربية للعلوم الإنسانية، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، العدد 152، خريف 2020م.
“شعرية السلطة وتحولات الخطاب: جذور التقصيد في أراجيز النقوش الصخرية القديمة”، مركز أبوظبي للغة العربية، مجلة الدراسات العربية، 2022م.
“تجليات الآخر المسيحي في الشعر الجاهلي من منظور سيميائيات الثقافة”، جامعة مؤتة، المملكة الأردنية الهاشمية، المجلد18، العدد2، 2023م.
وللقارئ العام والقارئ المتخصص الحق فيما تثيره هذه الأبحاث- المنشورة في مجلات عربية علمية محكمة- من أثر ومكانة وقيمة عند قراءتها، حيث شدتني إليها عنوة، وأكدت لي أن الشرماني باحث من طراز رفيع، صاحب رؤية علمية كاشفة عن حقائق وأفكار تغيبت عن بال كثير من البحثة والنقاد المتخصصين الذين ألِفوا التكرار، وأدمنوا تناول الموضوعات التقليدية الميتة التي لا يمكن أن تضيف لك أية فائدة، أو تستهويك لا منهجاً ولا موضوعاً.
أما المفاجأة الكبيرة في مسيرة هذا الناقد الأكاديمي الصاعد فكانت فوزه بالمركز الأول في جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي، في دورتها الثانية 2022، والتي تمحورت حول موضوع” تحولات القصيدة العربية في ميزان النقد” عن بحثه المعنون بـ”استراتيجية التحول الثقافي في القصيدة اليمنية المعاصرة” من بين أكثر من خمسين باحثاً من عشرين دولة عربية، كأول يمني يحصد الجائزة بتفوق علمي مشهود، متقدماً على أسماء عربية مرموقة، ولها باع طويل في هذا الشأن، وهذا يدل على الخطى الثابتة والمنهجية الصارمة التي يتبعها الشرماني في مواضيعه العلمية المتناولة التي تأسر المحكَم وتجبره على الإشادة بمكانتها ومنحها الحظوة اللائقة والترتيب المستحق.
وبإمعان النظر والتعمق وسبر أغوار كتابه الفائز بجائزة الشارقة للنقد العربي المعنون ” استراتيجية التحول الثقافي في القصيدة اليمنية المعاصرة، الفضول أنموذجاً” يتراءى للقارئ جدية الناقد وجدة الأكاديمي، بداية بتقسيم الكتاب إلى فصلين سبقهما تمهيد عن التحول باعتباره مفهوماً ثقافياً، واستراتيجية هذا التحول، وتفكيك للشخصية الثقافية للشاعر الفضول، أما الفصلان فعنون الأول “وعي رؤية التحول الثقافي”، وتحدث فيه عن الكائن وأقنعته/ نسق المواجهة، والممكن وأدواته/ نسق التنوير، أما الفصل الثاني فعنونه ب” إنجاز رؤية التحول الثقافي” مطبقاً ذلك على ثلاثة نماذج: النموذج الشعبي/ نسق التكامل، النموذج النخبوي/ نسق الأمل، النموذج الرمزي/ نسق الإنجاز، منهياً بحثه بخاتمة لموضوعه.
وقبل التوغل بين ثنايا الكتاب، ينبغي الإشارة أولاً إلى أن منهج النقد الثقافي ما زال مغيباً في النتاج النقدي العربي بشكل عام وفي اليمن بشكل خاص، رغم الأهمية الكبرى والنتائج الحقيقية التي بمقدور هذا المنهج التوصل إليها، وكشف الستار عن إشكاليات جذرية في صلب ثقافتنا العربية المترهلة، ووعينا العربي الهش من خلال دراسة النصوص الأدبية شعراً وسرداً وتشكيلاً وزياً، بما أن النقد الثقافي يستوعب مختلف النتاجات الإبداعية وغير الإبداعية باعتبارها قابلة للتناول من قِبَله، أما الشيء الآخر اللازم ذكره في هذا السياق أن تطبيق هذا المنهج على إبداع شاعر يمني يمتاز شعره بالغنائية والوضوح والقرب من الذائقة اليمنية فهذا يعطي البحث مصداقية ويقيناً وأهمية فيما توصل إليه.
حيث حاول البحث تتبع طبيعة تحولات عدة كتحولات الرومانتيكية إلى نزوع واقعي، وتحولات غنائية الإحساس إلى غنائية التأمل والنخبوي إلى الشعبي عبر تناول القصيدة السياسية والعاطفية الفضولية- في الستينيات والسبعينيات-التي كان همها النهوض بالوطن وإنقاذه من التخلف، إذ تفرد الفضول بمعالجة قضية التخلف من جانب ثقافي وليس من جانب فكري أو أيديولوجي أو سياسي، والتغلب على أنساق الإعاقة الكامنة في الذهنية اليمنية من خلال معالجتها ثقافياً عبر النص الشعري، بعد توصل الشاعر إلى قناعة مفادها:” أن ثقافة النخبة وأقنعتها هي أصل المشكلة وهي العائق الأكبر، وأنه لابد من البحث أولاً عن وعي ثقافي جديد يؤسس لفكرة التحول نفسها في العقل الجمعي”ص29.
لقد استطاع الناقد أن يكشف بمنهجه الخطاب الثقافي لقصائد الفضول السياسية التي قلَّما أن نجد شاعراً يمنياً يضاهيه في الاشتغال على قضايا الوطن والنخب والثقافة وطرق التفكير والوعي المتخم بالانتكاس والتردي، وتلبس السياسات الخاطئة لباس الريادة والمنطق السليم رغم فداحة تلك المواقف التي توزعت مظاهرها في التزييف، “فأخذ الجهل شكل العلم، والانغلاق والعنف والكراهية شكل الفكر”.
لقد ظل شعر الفضول ردحاً طويلاً بمنأى عن تناول نقدي حقيقي يبرز خباياه ويستوعب شفراته وغاياته ومآلاته التي جسدها الشاعر في نصوصه – باستثناء دراسات طفيفة لامست جوانب فنية شكلية ومظاهر موضوعية سطحية – حتى وقعت في شباك تناول الشرماني الذي تمكن من تشريح أبعادها وتقريب صورتها ولملمة رؤيتها بشكل أفصح عن حقيقة الارتباط الوجداني الشعري للفضول بمصير وطنه وقلقه على مستقبله في ظل تفشي فيروسات الرجعية والتخلف واستحواذ النخب المزيفة على مساحة التفكير والثقافة والوعي في الجغرافيا اليمنية.
ولذا تمكن البحث من تحديد ملامح صورة الوطن في وعي الشاعر الفضول باعتباره “بيئة ماتعة وجميلة ولكنه مع ذلك مجال صراع وتصادم حتمي بين أنساق متكلسة تحول دون انعتاقه من ربق التخلف والضياع”.
وتعليقاً على البحث بشكل عام فإن الناقد لم يكن دافعه عبثياً في تناول ظاهرة التحول الثقافي في القصيدة اليمنية المعاصرة من خلال الفضول؛ وإنما لتفرد قصائد هذا الشاعر بالظاهرة، وانشغالات تجربته الشعرية بها، وتماهي الشاعر معها كونها تمثل سقفاً يتحرك تحت ظله كشاعر وكمثقف مهموم بتأزم واقعه وانتكاس جغرافيته، فسخر موهبته الإبداعية في تفكيك بنية الوعي والتفكير في ثقافة هذا المجتمع بفعل ثقافي شعري يتصادم مع كواليس تلك البنية ويظهر قبحها وخطرها على حاضر اليمن ومستقبله، مستشرفاً المآلات التي يمكن بلوغها إن بقت تلك البنية راسخة في الحضور والفاعلية.
ويحسب لهذا الناقد الفذ أيضاً أن تتبعه وتوغله النقدي نابع من قلقه الوجودي وهاجسه المتوقد الحائر في فهم جذور الإشكالية المعيقة لتقدم هذا المجتمع وخروجه من بوتقة الجمود والرجعية وبناء مستقبل حقيقي لأجيال تاهت وتشتت وهي تبحث عن نافذة للخلاص من سواد حاضرها ومستقبلها، وعليه كان بحثه صادر عن وعي مثقف نخبوي وناقد ثقافي عقلاني مهموم بمحيطه وبغيته التفاعل مع مصيره والإسهام في زحزحته من حالته المأساوية المستحوذة على مختلف جوانب حياته.