كان رحيل عبدالكافي الرحبي في (التاريخ) فاجعاً…
أتذكر لحظة دهمني النبأ.
رحيل الباحث والناقد والمثقف الوطني العصامي واليساري المتجذر والمتجدد الذي رغم كل الإحباطات والإغراءات والترهيبات، استمر كهامة إنسانية رفيعة، معززًا بالتنوير، وبانفتاح الحس ونكران الذات، كما بالإيثار والتفاني، إضافة إلى تلك النبالة المتسقة والمبهرة مع قيم العدل والحق والجمال، تاركًا أثرًا عظيمًا في نفوس ووجدان كل من عرفوه عن قرب.. لا أبالغ أبدًا وأنا أؤكد على أنه -بالنسبة لي على الأقل- كان حالة خصوصية تصل إلى مصاف الأسطورة في التواضع والنقاوة والشرف ومحبة الناس وهجران المصالح الخاصة.
ولد ( الفقيد عبد الكافي ) في مدينة يريم محافظة إب، عام 1957. … الفقيد حاصل على ليسانس آداب ــ فلسفة واجتماع ــ تخصص فلسفة، من كلية الأداب، جامعة صنعاء.
عبدالكافي الشغوف والحيوي والاستثنائي بموسوعيته وقراءاته الممنهجة والعميقة تراثياً وحداثياً، حول كل شيء، بلا استثناء.. كنت كلما عانقته، شعرت بأنني أعانق السهروردي وجيل دولوز وابن رشد وتروتسكي ونيتشه والفارابي وبوذا وأرنست فيشر والعفيف الأخضر وسبينوزا والهمداني وجواد علي والزبيري وحسين مروة وعمر الخيام وابن عربي والشبزي وابن شرف الدين والمعري وغرامشي والمهدى المنجرة وابن خلدون ومحمد أركون وعبدالله العروي، إضافة إلى المعتزلة والمطرفية وإخوان الصفا والقرامطة، وكذا صناع ثورة 68 الطلابية في باريس… كلهم كنت أخالهم جميعًا يحتشدون ويتحاورون بكل ما تحمله الألفة من معنى، في كيان واحد اسمه عبدالكافي الرحبي.
لقد كان عبدالكافي الرحبي يبهرني وهو يتعالى فوق الخصومات والانغلاقات، ولذلك أجزم بأنه لم يجرح أحدًا من الذين جادلهم واختلف معهم منذ عرفته قبل 15 عامًا.
عبدالكافي الذي اتسم بذلك النوع النادر من سلوك ووعي الزهاد والفرسان الكبار، فخاض مكابداته وهمومه بطمأنينة وانشراح، عازفًا عن كل المظاهر السطحية، ومرتقيًا في مبادئه الثابتة أعلى مراتب السمو.
المناضل الشهم في صفوف الحركة الوطنية من أجل توطيد الثقافة التغييرية والإبداع الحر والعقلانية والمدنية وحقوق الإنسان والتقدم، على الضد دائمًا من مهيمنات ثقافة التخلف والطائفية والاستبداد والاستلاب والإرهاب والجمود العقائدي.
عبدالكافي الذي استمر في الطريق الشاق منذ أيام العمل السري قبل الوحدة -بحسب سيرته العطرة المنقوشة في قلوب مجايليه- حيث كان النظام حينها في عز بطشه الأمني للسياسيين والمفكرين والأدباء، فضلًا عن استخدامه ورقة التكفير ضدهم، وكذا محاربتهم حتى في لقمة العيش. وهي التصرفات المأفونة التي لم تغادر عقلية النظام حتى الآن.
لقد رحل عبدالكافي الرحبي متوجًا بمحبة الغرباء الأكثر تشبثًا بحلم اليمن الجديد، فهو الذي استطاع بجدارة متفوقة أن ينجو، ولم يسقط أبدًا كآخرين، وإنما ظل طوال حياته كمصباح معرفي ووطني بلا ضجيج ولا ادعاء ولا مساومة بالمواقف، بينما سنظل نزهو ونعتز بحكمته وكبريائه وصلابته الأشد وابتسامته الأنقى.