قليلون جداً من جيل سبتمبر 1962 لم يُسقطوا من ذاكرتهم سهواً أو عمداً الفقيد المنسي يحيى البشاري، الشاعر والتنويري الوطني القدير الذي لم يُنصف كما ينبغي؛ بل ويكاد لا يعرفه أحد، مع انه من أبرز الذين صنعوا سبتمبر الخالد ومن أبرز الشعراء الذين أنجبهم.
صحيح أنه كان معروفاً لدى كثير من رفاق دربه كأيقونة أدبية ووطنية فريدة، إلا ان اسمه توارى إلى الهامش بعد عقود ليقفز إلى المتن أولئك الذين استمروا في تشويه التاريخ الحقيقي لأبطال سبتمبر.
في العام 1937 ولد يحيى البشاري بمديرية كشر بحجة، كما كان قاضياً بداية حياته، وتحديداً كان عامل ذيبين – عمران حين اندلعت الثورة، ثم أثناء حصار السبعين يوماً كان من ضمن القيادة المدنية العليا للمقاومة الشعبية، كما كان عضواً في اللجان الفنية المشتركة التي تشكلت باتفاق بين الرئيسين عبد الرحمن الإرياني وسالم ربيع علي في 1972 للإعداد للوحدة بين الشطرين.
رحل البشاري في العام 2005 وهو شامخ ونزيه لا يمتلك شيئاً غير مبادئه الخالدة التي ظل يعتز بها. وبالتأكيد يبقى من المؤسف عدم تدوينه لمذكراته مثلاً، إضافة إلى أن قصائده شبه المجهولة التي لم تنتشر أثناء حياته، تضمنها ديوان يتيم صدر بعد موته، ومع ذلك لم يوزع بشكل لائق حتى ظلت إمكانية الحصول عليه صعبة للغاية؛ ولهذا ظل اسم وتاريخ يحيى البشاري الجميل والنقي مطموراً على نحو موجع وملغز أيضاً.
لكن كما قال البشاري نفسه “وآه منه ضجر يتبع ضجر وليل ياصاحبي يحبل بليل”، و”يابلادي: قولي لصرف الليالي كل رامٍ له من الدهر رامِ”!
المهم: هنا بعض إضاءات عنه من قبل عدد من الأوفياء الذين عرفوه وتحدثوا أو كتبوا عنه. وليتقبل جزيل امتناني من أرسل لي بصورته هذه، والتي تعود لمرحلة السبعينيات في ميدان التحرير، بينما يبدو فيها يحيى البشاري كغريب عزيز مكللاً بالدفء والسماحة والاخضرار ولا يستحق سوى احترام خصوصي ومحبة استثنائية.
***
“أول شخص من حاشد دخل يقود 800 مسلّح دعماً للثورة بعد قيامها مباشرة، كان شاعراً، تصوّر، اسمه يحيى البشاري، وكان من بين عساكره مجاهد أبوشوارب والمشائخ الكبار في حاشد، شاعر قضى حياته وهو ماسك على جمرته”.
الأستاذ أحمد قاسم دماج
***
“شاعر عملاق، واضغط على كلمة عملاق.. شامخ كشموخ تلك الجبال الرواسي في اليمن، عيبان ونقم وكوكبان وصبر وشمسان خولان.. هذا الشاعر ليس مغموراً ولكنه دوماً ينكر ذاته. أبيّ شريف مناضل. عاش اليمن. مزّق نفسه وروحه وحياته فداءً لليمن. لم يمدح ولم يتملق ولم يتزلف أحداً طوال حياته، وقد مضى على معرفتي به أكثر من ثلاثين عاماً.. يمشي كألف ابن مقلة في شوارع صنعاء، على الرغم من أنه لايملك شيئاً، ذلك هو الشاعر يحيى بن علي البشاري.
هناك شعراء مجيدون وربما يفوقونه، ولكنه يتفوق عليهم بعملقته وإبائه وشممه. يحيى البشاري الذي قال قصائد غاية في الجرأة وكان يمكن أن يعدم لو قالها في غير اليمن، ولكنه دائماً في اليمن وفي غير اليمن لايخاف، يقول الشعر في سبيل عز اليمن ومجد اليمن وفخر اليمن بماضيها وحاضرها.
أقول: له قصيدتان نشرتا في جريدة السلام التي كان يرأسها عبدالله الصيقل، وصودرت الصحيفة ولكنهم لم يستطيعوا أن يصادروا يحيى البشاري بقامته المديدة، الذي لم ينحن ولن ينحني قط حتى يوسدّ في التراب.. أقول هذا وأنا قد جفوته وأعتذر له
تحياتي إلى هذا الرجل العملاق الذي لم ينحن ولن ينحني أبداً والذي لايملك شيئاً وكان بوسعه أن يملك الملايين الملايين لو أراد، إنه يكاد يكون مجهولاً من عامة الشعب، أما انا فإنني أحبّ هذا الإنسان العملاق وأشعر أن محبتي له هي جزء لا يتجزأ من محبتي لليمن”.
محمد عبدالواسع حميد الأصبحي – الخويل
***
“منذ سنوات وبعد أن قرأت إحدى قصائد الشاعر المبدع يحيى البشاري فكرت أن أرتقي أحد جبال اليمن العالية وأشعل في قمته النيران وأقرع الطبول من حول هذه النيران إعلاناً بمولد شاعر كبير وذلك على غرار ما كانت تفعله القبائل العربية حين ينبغ فيها شاعر عظيم.
والبشاري شاعر متواضع يكره الشهرة ويكره النشر إلا نادراً. وإن بقيت لي كلمة أقولها فهي طلب العذر من صديقي الشاعر يحيى البشاري فقد تسللت إلى عزلته وخدشت مياهه بحديثى عنه”.
د. عبدالعزيز المقالح