من قال “أنا لا أهم ولا أخشى سوى أن من إيمان الشعب أن الايديولوجية الحوثية هي الحق ‘
في ظل نظام حاكم قمعي، ومع تزايد الأزمات السياسية والاقتصادية في اليمن، تبرز شخصيات نادرة تكسر الصمت وتدافع عن المبادئ الإنسانية والمجتمع المدني. من بين هذه الشخصيات يبرز اسم أبو بكر السقاف، الذي قضى حياته يدافع عن حقوق الإنسان والدولة المدنية. في هذه السطور، نستعرض حياة ذلك الفيلسوف والأكاديمي الملتزم الذي وافته المنية في 13 ديسمبر 2022 عن عمر يناهز 88 عاماً في موسكو، بعيداً عن وطنه الأم.
ويمكن القول إن أبو بكر السقاف كان رمزاً للنضال الفكري والسياسي في اليمن، إذ كانت حياته مليئة بالتحديات والصعوبات، لكنه ظل صامداً في مواجهة الظلم والاضطهاد. رغم رحيله، سيبقى إرثه.
البدايات في إثيوبيا ولحج
ولد أبو بكر السقاف في إثيوبيا عام 1935 لأب يمني وأم إثيوبية. عندما كان في سن العاشرة، عاد بمفرده إلى منطقة الوهط في محافظة لحج بجنوب اليمن. هناك التحق بالمدرسة الجعفرية، حيث بدأت رحلته الأكاديمية والفكرية. تلك الفترة كانت مليئة بالتحديات، ولكنها شكّلت شخصية السقاف وأثرت في رؤيته للعالم.
الدراسة والنضال في القاهرة
في عام 1953، ذهب السقاف إلى القاهرة ضمن بعثة للاتحاد اليمني في عدن، بعد ترشيح من نادي اللشباب اللحجي. خلال فترة دراسته هناك، انخرط في العمل الوطني الطلابي، وأسس مع زملائه مثل عبد الكريم الإرياني ومحمد عبد الوهاب جباري وعبد الله حسن وعمر الجاوي أول مؤتمر للطلاب اليمنيين في القاهرة عام 1956. كان هذا المؤتمر نقطة انطلاق للعديد من النضالات ضد حكم الإمامة في صنعاء والاستعمار البريطاني في عدن.
التحصيل الأكاديمي في موسكو
بسبب الاستقطابات السياسية بين التيارات العربية في الجامعات، فُصل السقاف مع عدد من الطلاب اليمنيين من القاهرة وتوجهوا إلى موسكو لإكمال دراستهم. في موسكو، تخصص السقاف في الفلسفة الإسلامية وفلسفة المعتزلة، حيث أثرت هذه المرحلة بشكل كبير على فكره ومنهجه الأكاديمي.
أستاذ الفلسفة والمناضل السياسي
بعد عودته إلى اليمن، عمل السقاف كأستاذ للفلسفة في جامعة صنعاء لأكثر من أربعة عقود. خلال تلك الفترة، كان معروفاً بانتقاده الشديد للسياسات الحكومية. في عام 1988، أصدر أول كتبه بعنوان “الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي” تحت اسم مستعار، محمد عبد السلام. هذا الكتاب كان بداية سلسلة من الأعمال التي انتقد فيها النظام السياسي في اليمن.
النضال ضد نظام علي عبد الله صالح
منذ صعود علي عبد الله صالح إلى الحكم في عام 1978، كان السقاف من أشد المعارضين لنظامه. بعد حرب صيف 1994، التي هزم فيها الحزب الاشتراكي اليمني، تصاعدت معارضته للنظام الحاكم، مما أدى إلى تعرضه لمضايقات وتعسفات كثيرة، وضرب مبرح فضلاً عن فتاوى دينيه يتزعمها الإخوان المسلمون في اليمن بقيادة الشيخ عبد المجيد الزنداني رئيس جامعة الإيمان بما في ذلك إيقافه عن العمل في جامعة صنعاء.
الهجرة إلى موسكو ومواصلة النضال
في أبريل 2015، ومع تدهور الأوضاع في اليمن وسقوط صنعاء في يد ميليشيات الحوثي، غادر السقاف بمفرده اليمن على متن طائرة إجلاء روسية متجهة إلى موسكو. هناك، واصل السقاف نضاله الفكري والحقوقي، رغم بعده عن وطنه. بقى في موسكو حتى وفاته، تاركاً وراءه إرثاً كبيراً من الفكر والنضال.
الفكر الفلسفي والنظري
يُعد السقاف واحداً من أبرز منظري الحريات وحقوق الإنسان في اليمن. كانت أطروحاته الفكرية تتناول قضايا الفلسفة الإسلامية وفلسفة المعتزلة بشكل خاص. ورغم يستدعى من أرقى الجامعات العربية والعالمية ليلقي محاضرات إلا أنه لم يطلق قبل اسمه لقب دكتور وهو الدكتور الفذ، يالتواضع العالم الجليل ؛ ولذلك تأثيره كان عميقاً وواسعاً بين طلابه وفي الأوساط الأكاديمية.
دعوة من انزياحات لاستعادة الإرث الفكري للدكتور السقاف
حتى بعد وفاته، لا يزال إرث السقاف الفكري موضع اهتمام كبير. هناك دعوات من أسرته وتلاميذه لاستعادة أعماله الفكرية المخطوطة التي نُهبت أو صودرت. هذا الإرث يشمل رسائل الماجستير والدكتوراه التي لم تطبع حتى الآن، وبعض المخطوطات الفلسفية التي درسها وعلّمها. وهي دعوة من موقع انزياحات الثقافي الاجتماعي السياسي المستقل إلى الجهات المعنية أولهما وزارة الثقافة وجامعة صنعاء.
الإرث الوطني والطلابي
بالإضافة إلى دوره كأستاذ، كان السقاف مناضلاً وطنياً بارزاً. كان من المؤسسين الأوائل للعمل الوطني الطلابي اليمني، وساهم بشكل كبير في تشكيل الوعي السياسي بين الشباب اليمني خلال الخمسينيات والستينيات. هذا الدور الوطني كان جزءاً لا يتجزأ من شخصيته ومنهج حياته.
التعليم والبحث العلمي
أحد الجوانب التي تميز بها أبو بكر السقاف هو اهتمامه العميق بالتعليم والبحث العلمي. كان يؤمن بأن التعليم هو الأداة الأساسية لتحقيق التغيير الاجتماعي والنهضة الفكرية. خلال مسيرته الأكاديمية، قدم السقاف العديد من المحاضرات والأبحاث التي تناولت موضوعات متنوعة من الفلسفة الإسلامية والفكر الإنساني. كانت هذه الأبحاث محط اهتمام الكثير من الطلاب والباحثين، الذين استلهموا منهجية البحث النقدي والتحليلي التي كان يعتمدها.
المنهج النقدي والإنساني
تميز أبو بكر السقاف بمنهجه النقدي والإنساني في تناول القضايا الفكرية والسياسية. كان يرفض القوالب الجاهزة والتفكير التقليدي، ويسعى دائماً إلى تقديم رؤى جديدة ومستقلة. هذا النهج جعله يتعرض للكثير من النقد والاعتداءات، لكنه لم يتراجع عن مواقفه المبدئية. كان يؤمن بأن الفلسفة يجب أن تكون في خدمة الإنسان والمجتمع، وأن التفكير النقدي هو السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والحرية.
العلاقة مع الطلاب والزملاء
كانت علاقة السقاف بطلابه وزملائه علاقة مميزة، قائمة على الاحترام المتبادل والنقاش البناء. كان يشجع طلابه دائماً على التفكير الحر والنقدي، وكان يعتبرهم شركاء في البحث والتعلم. هذا النهج جعله يحظى بشعبية كبيرة بين الطلاب، الذين كانوا يرون فيه نموذجاً للأستاذ الملهم والمفكر الجريء. كما كان يحظى باحترام زملائه في الجامعة، رغم الخلافات الفكرية والسياسية التي قد تكون بينهم.
الإسهامات الفكرية والأدبية
إلى جانب نشاطه الأكاديمي والسياسي، كان لأبو بكر السقاف إسهامات بارزة في المجال الأدبي. كتب العديد من المقالات والكتب التي تناولت موضوعات الفلسفة والسياسة وحقوق الإنسان. كانت هذه الأعمال تعكس رؤيته العميقة والمتعددة الأبعاد للعالم، وكانت تلقى اهتماماً واسعاً في الأوساط الفكرية والأكاديمية. من أبرز أعماله كتاب “الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي”، الذي يعد من أهم الكتب التي تناولت تاريخ اليمن الحديث.
التحليل السياسي والاجتماعي
كانت تحليلات السقاف السياسية والاجتماعية تتميز بالدقة والموضوعية. كان يعتمد على منهجية تحليلية نقدية، تجمع بين الفلسفة والسياسة والتاريخ. هذا النهج جعله قادراً على تقديم رؤى متكاملة وشاملة للأحداث والقضايا المختلفة. كان يرى أن الفلسفة يجب أن تكون متجذرة في الواقع الاجتماعي والسياسي، وأن التحليل الفلسفي يجب أن يكون مرتبطاً بالأحداث الجارية.
النشاط الحقوقي والإنساني
إلى جانب نشاطه الفكري والأكاديمي، كان أبو بكر السقاف ناشطاً حقوقياً بارزاً. كان يدافع عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ويطالب بالعدالة والمساواة. هذا النشاط الحقوقي جعله يتعرض للعديد من المضايقات والاعتقالات، لكنه لم يتراجع عن مواقفه. كان يرى أن الدفاع عن حقوق الإنسان هو واجب أخلاقي وإنساني، وأن النضال من أجل الحرية والعدالة هو رسالة كل مفكر ومثقف.
لا يساوم ولا يعرف في الغالب المنطقةَ الوسطى (الرمادية)
في مقالاته الأخيرة قبل مغادرته صنعاء عاصمة اليمنيين التاريخية المخطوفة اليوم لطالما وصف الميلشيات الحوثية
بـ”الاحتلال الداخلي’.. لقب الدكتور أبوبكر السقاف ب” أرسطو اليمن”.لم يعرف الدكتور السقاف التردد والمساومة عن الانحياز للحقيقة والتصدي للزيف والاباطيلة والكهنوتيه الحوثية العنصرية.بمعنى آخر كان ضد ” المركزية الإمامية”.
وصفه الروائى اليمني الكبير علي المقري يوم وفاته كاتبا”
اشتراكيو اليمن، معظمهم، لم يتحولوا إلى آفاق فكرية جديدة، وإنما انتكسوا وداهنوا الأفكار التي كانوا يعتبرونها رجعية ببنيتها الاجتماعية التقليدية، لكن المعلّم الماركسي الكبير أبو بكر السقاف كان استثناء في ذاكرة أجيال اليمن المعاصرة، إنّه الشيوعي الذي كان يمكن أن يشار إليه كدليل على وجود أفق مختلف”.
هكذا ظل ومات الدكتور أبوبكر السقاف لايداهن افكار الولاية
بل كان دائم الوعي في مواجهة القوى الظلامية كانت مكابدة التنوير بالنسبة إليه مكابدة شاقة جدا.
الدكتور أبوبكر السقاف الذي تتلمذ آلاف الطلاب الذين صار منهم البروفيسورات والدكاترة والمحترفين في جميع التخصصات على يديه.
وهو تماما كما وصفه الكاتب القدير قادري احمد حيدر ، بعد رحيله”إنّ صورة حياة وطريقة رحيل الفيلسوف والمفكر السياسي والمناضل أبوبكر السقاف، هو تعبير عن قمّة الاحتجاج والنقد على كلِّ ما يحصل في البلاد. رحيلٌ صامت ونقد عميق وحزين، وهو الفيلسوف النبيل والأكاديمي الرصين، والناقد العظيم لكلِّ ما كان يعج به الواقع من متناقضات”. مضيفا
“مقاومٌ لكلِّ العفن السائد حيثما وجد، وكأنّه وُلِد ووجد حاملا لمشرط التفكير العلمي والتحليل النقدي في حبله السري، وهو في كلِّ ذلك لا يساوم ولا يعرف في الغالب المنطقةَ الوسطى (الرمادية) في القول والفعل، خاصة حين يتعلق الأمر بالحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة. هكذا كان، وهكذا غادرنا وهو يعانق سماء بفكرة القول النقدي الصارم.
الحياة الشخصية
رغم انشغاله بالنضال الفكري والسياسي، كانت حياة السقاف الشخصية مليئة باللحظات الإنسانية الجميلة. كانت زوجته الروسية (لينا) شريكته في الحياة والنضال، وكانا يتمتعان بعلاقة قوية ومتينة. هذا الدعم العائلي كان له دور كبير في تعزيز عزيمته وإصراره على مواصلة نضاله، رغم الصعوبات والتحديات.
الرحيل والإرث
برحيل أبو بكر السقاف، فجعت اليمن ؛ كما فقدت اليمن والعالم العربي أحد أبرز مفكريها ومناضليها. لكن إرثه الفكري والنضالي سيظل خالداً في ذاكرة الأجيال القادمة. ستبقى أعماله وأفكاره مصدر إلهام لكل من يسعى لتحقيق العدالة والحرية، وستظل مواقفه الجريئة والشجاعة نموذجاً يحتذى به في مواجهة الظلم والاضطهاد.