كتب

“لعلّكِ” للشاعر يوسف القدرة: قراءة في تجربة شعرية عميقة بعد عشرين عاما

خاص- انزياحات 

 رئيس التحرير 

“لعلّكِ” هي مجموعة شعرية صدرت عام 2007 للشاعر الفلسطيني يوسف القدرة، وهي المجموعة الثالثة في مسيرته الشعرية. كُتبت هذه النصوص في فترة زمنية تتراوح بين عامي 2003 و2004، مما يجعلنا نتأمل هذه التجربة التي مضى عليها ما يقرب من عشرين عاما. في القاهرة عشت أربعة أعوام كجار ليوسف القدرة نتغدى معا في الأسبوع مرتين ونسهر معا رفقة اصدقاء وزملاء كلهم أبو يمن ، لذلك يستحق يوسف القدرة الحصول على الجنسية اليمنية عن جدارة.. في ذكرى العيد الثاني والستون لثورة ٢٦ سبتمبر المجيدة كتب يوسف القدرة مقالا تاريخياً عن ثورة سبتمبر نشرته انزياحات.

(لعلّكِ- ط1-2007) مترجم إلى اللغة الفرنسية- ترجمة: د.حسيبة بنموسى ماحي – أحد اصدارات دار ميم بمناسبة معرض الجزائر الدولي الذي انطلق في 21 سبتمبر 2011

لنعد إلى هذه المجموعة التي اهداني يوسف القدرة آخر نسخة يملكها قبل أن يغادر الى غزة بعد ٨ سنوات قضاها في نيل درجة الماجستير ومن ثم التحضير لنيل درجة الدكتوراة في الآداب المجموعة تنطوي على طابع شخصي عميق، يجمع بين التأملات الذاتية، القضايا الإنسانية، ومعاني الفقد والبحث عن الذات وسط تحولات قاسية. استطاع يوسف القدرة أن ينسج من خلال هذه المجموعة نصوصا تعبر عن حال الفلسطيني المنفي عاطفيا وجسديا، ويقدم لنا بذلك تجربة شعرية غنية بالرمزية والتساؤلات.

 

الرمزية في العنوان: “لعلّكِ”

العنوان “لعلّكِ” يعكس جوهر المجموعة الشعرية، فهو يوحي بالترقب والأمل، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام احتمال الغياب أو الفقدان. هذا الاستخدام اللغوي يوحي بحالة انتظار دائمة، سواء كان ذلك انتظار الحبيبة أو الوطن. العنوان يعبر عن قلق الشاعر المستمر وتوقه للوصول إلى هدف لا يزال بعيد المنال. هذا ال”لعلّ”الذي يحكم النصوص يشكل حالة من الترقب المفتوح، الذي يعبر عن عمق العلاقة بين الشاعر وبين الحبيبة، التي تظهر أيضا كرمز للوطن.

 

ثنائية الحب والوطن:

 

الحب في “لعلّكِ” ليس مجرد تجربة عاطفية بين شخصين؛ بل يمتد ليشمل الوطن كرمز للحنين والانتماء. في النصوص، نرى كيف يتداخل الحبيب مع الوطن بشكل لا يمكن فصله. على سبيل المثال، في أحد النصوص نقرأ:

“كانَ البحرُ يعرفُ أنَّها وحدها الدفءُ الذي يتلاءمُ مع كيانِكَ المخلوقِ من تيهٍ وحُبّْ. يعترفُ الموجُ بديمومتِهِ. يُطلقُ مشاهدَهُ للكلِّ دونَ رأفةٍ وبحنانٍ كبيرْ.”

البحر هنا يحمل دلالة واضحة للوطن الذي يجسد الملجأ الدائم، ولكن في نفس الوقت لا يرحم أحدا. يشير الشاعر إلى مشاعر مختلطة بين الحب والألم، حيث تصبح الحبيبة في هذه الصورة ليست فقط الإنسان الذي يتوق إليه، بل الوطن الذي يبحث عن حضنه.

 

اللغة والتعبير الشعري:

يوسف القدرة يعتمد على لغة غنية بالصور البلاغية والتعبيرات المتداخلة، التي تعكس تعقيدات المشاعر التي يعيشها. تتداخل في نصوصه الأبعاد الحسية والبصرية، مما يجعلها قصائد مرئية تقريبًا. يقول الشاعر:

“دُقَّ بابُ البيتِ فبكتْ وانْكبَّتْ على بانيو مفروشٍ بفُلٍّ وياسمينْ، مُحاطٍ بشموعٍ حُمرٍ وخُضرْ.”

في هذه الصورة، نرى كيف يتمكن الشاعر من نقل مشاعر الحزن والحنين من خلال مشهد بصري مليء بالتفاصيل الحسية. استخدام الألوان والروائح هنا يعكس عالما داخليا متناقضا بين الفرح والحزن، بين الجمال والفقدان. هذه التصاوير الحسية تجعل النصوص تتجاوز مستوى الكلام العادي إلى مستوى التجربة الحسية المتكاملة.

 

التشابك بين الأمل واليأس:

تمتاز النصوص في “لعلّكِ” بالتشابك الدائم بين الأمل واليأس. الشاعر يعيش حالة من التناقض الداخلي؛ فهو في آن واحد يتطلع إلى المستقبل بحذر، ويخشى في الوقت نفسه من أن يتبدد هذا المستقبل. في إحدى القصائد، يقول :

“متى ألقاكَ لتنزِّل عليَّ من شفتيكَ عِطراً، تأويني في لوحةِ تيهكَ، كأبيض تجرِّدُني، تُشكِّلُني عِنَبةً مصيرها نبيذٌ مُعتقْ!!”

هذا المقطع يعبر عن رغبة الشاعر في لقاء الحبيبة، ولكنه يتضمن أيضا إشارة إلى الخوف من أن يكون هذا اللقاء مجرد حلم لا يتحقق. التوتر بين الرغبة والخوف، بين الحلم والحقيقة، هو ما يميز الكثير من نصوص هذه المجموعة.

 

الحنين إلى الماضي والبحث عن الذات:

 

في “لعلّكِ”، لا يظهر الحنين فقط كحنين إلى الحبيبة، بل هو حنين إلى الماضي وإلى الهوية الضائعة. الشاعر يعيش حالة من البحث المستمر عن نفسه في عالم تائه يتغير بسرعة.ماتمتاز به سيكولوجية الشاعر الفلسطيني يوسف القدرة عموماً ..يقول في إحدى القصائد:

“جلستَ تحتَ الغيومِ تَعُدُّ ما بدا لكَ من آفاقٍ وصورٍ مغْسولةٍ بالشِّعر. الشاعرُ ينهضُ من جُمْلةٍ، يركبُ جَمَلاً، يدقُّ خُفِّيْهِ على طريقٍ مرصوفٍ بالآمالِ والآلامْ.”

هنا يعبر عن رحلته الشخصية في البحث عن الذات. الجمل في هذا المقطع يرمز إلى الماضي العربي، ويعبر عن الانتقال بين الآمال والآلام، مما يعكس رحلة الشاعر بين الذاكرة والواقع.

 

الزمن والمكان في النصوص:

 

يمثل الزمن والمكان ثنائية مهمة في هذه المجموعة. الزمن في نصوص “لعلّكِ” ليس خطيا؛ بل هو زمن مشوش يتداخل فيه الحاضر مع الماضي. يختبر الشاعر الزمن كحالة من الانتظار والحنين، بينما يتداخل المكان بين الوطن المفقود والمكان الحالي الذي يعيش فيه الشاعر. يقول:

“بدأتْ تفقدُ هدوءَ حزنِها، ورَّطتْها السجائرُ في فراغاتٍ أكثرَ من تحمل أضلعها لنيكوتين غيابٍ وبُعدٍ أزليّْ.”

في هذا المقطع، نجد كيف أن الفراغات الزمنية والمكانية تتداخل مع مشاعر الفقد والغياب. الغياب هنا ليس فقط غياب الحبيب، بل غياب الوطن والهوية.

يوسف القدرة وفتحي أبو النصر صنعاء ٢٠٠٤ م

تأملات فلسفية عن الحياة والموت:

إلى جانب الحنين والحب، نجد في “لعلّكِ” تأملات فلسفية حول الحياة والموت. الشاعر يعيد التفكير في مفهوم الزمن والوجود، ويربط بين الحياة والموت كحالتين متداخلتين. في أحد النصوص، نقرأ:

“كلُّ موتٍ انتباهٌ وتجاوزْ”

هذا المقطع يعبر عن فلسفة الشاعر في النظر إلى الموت ليس كنهاية، بل كحالة من التغيير والانتباه. الموت هنا يصبح رمزا للتحول، والتجاوز هو انتقال إلى حالة أخرى من الوجود.

والخلاصة أنه بعد مرور عشرين عاما على كتابة “لعلّكِ”، تظل هذه المجموعة علامة فارقة في مسيرة الشاعر يوسف القدرة. النصوص تحمل طابعا فلسفيا وتأمليا عميقا، وتجسد رحلة الشاعر في البحث عن الحب والهوية في عالم مضطرب. يوسف القدرة نجح من خلال هذه النصوص في تحويل تجربته الشخصية إلى تجربة جماعية، تعبر عن حال الإنسان الفلسطيني المنفي والعاشق، الذي يعيش بين الأمل واليأس، وبين الحلم والحقيقة الأكثر من مرة.

******

“جاء في كلمة الناشر “

شكّلت جمعية الثقافة والفكر الحر نبراساً مضيئاً على طريق الإبداع الأدبي والتميز الإبداعي، في الحركة الثقافية في قطاع غزة بشكل عام ومحافظة خان يونس بشكل خاص، وأخذت على عاتقها رعاية الأدباء والفنانين المبدعين ليشكلوا النقطة الرئيسية في انطلاقة الأدب وإعلاء الحس الفني لدى الشباب، فاستنهضت هممَها وجمعت قوّتَها لتبني أول ملتقى يضم المبدعين على طريق الإبداع الفني والثقافي تتلاقى فيه المواهب المبدعة وتتلاقح فيه الأفكار، فقدمت اللقاءاتُ والأمسياتُ مجموعةً من التجارب الإبداعية في الشعر والنثر فتلونت الأجواء الثقافية لتفعّل الحراك الثقافي من خلال تبني وطباعة مجموعة من الكتب لعددٍ من الشعراء الشباب الذين احتضنهم ملتقى الإبداع الأدبي في مركز ثقافة الطفل الفلسطيني.

 

كانت باكورة الأعمال مجموعة “كي” للشاعر محمود ماضي و”بعض ذنوب” للشاعر عبد الفتاح شحادة “وابن المخيم يا ولد” للشاعر غازي كلخ، وبين أيديكم مجموعة الشاعر يوسف القدرة الموسومة بـ”لعلك”، نصوصُها تحاكي خبايا الذات الإنسانية متجلية بصورٍ جماليةٍ تلامس الروح القارئة؛ النصوص في حضرةِ بياضِها، تخطو لتصافح بياضَ أرواحكم…

الناشر جمعية الثقافة والفكر الحر

 

****

مختارات من المجموعة 

النصوص في حضرةِ البياض:

قصيدتان

(1)

بدا لها أنَّهُ الاثنان معاً* 

 إلى سمر الأشقر

 

***

..وجَلسَتْ تَضْغَطُ بِكفِّها على حُلمٍ لمْ يَسْتيْقظْ بَعدْ، كاْنَتْ خَدِرَةً، ما يَزالُ صوتُهُ موسيقىً حزينةً في أُذنيِها، شَبِقَاً كَقَوْسٍ مِنْ أَلْوانٍ غَامِقةٍ رأتْـهُ، كَاْنَ إِنَاْءً مِنْ زُجَاْجٍ رَقِيْقٍ وشَفَّافْ، يَلْبِسُ عُريَهُ وندىً مَرْشوْشاً بِدِقْةٍ على جَسدِهِ، ويفيضُ.

 

***

رأتْ نَاْراً تَتَرَاْقَصُ وكِتَاْباً يَقرأُ سرَّهُ، الوحدةُ تَتسلَّقُ سلالمَ زمنٍ ينْدَلِقُ كعصيرٍ على سريرٍ مصنوعٍ مِنْ نِعْناعْ. كانَ يَعْصُرُ صَمتَهُ بكلامٍ من دَمهِ، حاولَ الاسترخاءَ على صدرِها، بدا لها أنَّ تاريخاً من جَمالٍ قَدْ اختفى، باغتتْها روحٌ ارتقتْ بياضاً على وجهِ مراياها، تدَّلى متكوِّراً ودَنَا، قطفتْهُ بُرتقالةً، خبَّأَتـْهُ بينَ صمتين، بكتْ كُحلاً، رسمتْ مركباً وبحرْ.

***

ليلاً غامضاً كانَ، الصباحُ خلا من بُنٍّ يبني بيوتاً وتَوابيتْ. صَرَعَتْها فِكرةُ أنْ يأتي الضُّحى بدونِ تفسيرٍ لِمَا رأتْ.

قالتْ:

إنَّ ما رأتْهُ ليسَ حُلُماً، ولا حقيقةً، بدا لها أنَّهُ الاثنان معاً، وسرحتْ.

***

حِصَاناً أَحْمرَ جاءَ لها، يَعْزفُ ناياً ويرقصْ، تشابهَ عليها الأمرُ، رقصتْ. دغْدغَ قلبَها لحنٌ تحفظُهُ، رَدَّدتْـهُ معْ وجعٍ مَلْحوظٍ وتجلَّتْ. بردٌ مُنْضبطٌ تسلَّلَ إلى أصابعَها، نفضتْهُ بشقاوةِ قطٍّ يُداعبُ بمخالبِهِ الوقتَ. جرحتْ رِسْغَها، كتبتْ بدمِها على لهفتِها جُملةً تقولُ:[لاْ، لمْ يُحرِّكْ صمتَ ساكنٍ هنا]. تناستْ حاجتَها لتفسيرٍ لِمَا رَأَتْ، ارْتأتْ أنْ تَنامَ مرَّةً أُخرى.

***

مُعطَّراً بالارتجافِ كانَ السريرُ، رأتْـهُ مسلوقاً بزيتٍ يسيلُ من جبلٍ مَصْلوبٍ، كانت أسنانُهُ تَصْطكُ كأسئلةٍ مَصفوفةٍ على بابِ الإجابةْ. حَبَتْ إليهِ، مَسَّتْ جنونَهُ الذي جناهْ، جَنتْ دِفئاً مُغايراً، تكهربَ فيها صمتاً مَكْتوباً بِحبرٍ مَكْتومْ. تعالى صراخٌ أَطْبقَ كشهقةٍ على قَهْقَهةٍ مُتْعبةْ. تَلوَّتْ ثمَّ انْفرجَ انْقباضُها على اتِّساعٍ أخْضرَ، أَحسَّتْهُ يُمَسِّدُ عنقَها، يلتقي بأوردتِها فيما شفتاهُ مُنْقارانِ حادانْ.

***

قلْبُه كانَ أوسع من بحرٍ رسمتهُ، ركبتْ مَرْكِبَاً، هامتْ في متاهاتٍ تَسكنُ عُمقَها، تعلقتْ بيقظةٍ أصابَها بِها عصفورٌ يُزقزقْ.

حدَّقتْ في الشّباكِ بحدَّةِ تحدِّيٍ، كسرَها بللٌ خَجِلٌ من ذاتِهِ. ارتقتْ الشمسُ، دخلتْ إليها، نَشفتْ.

***

دُقَّ بابُ البيتِ فبكتْ وانْكبَّتْ على بانيو مفروشٍ بفُلٍّ وياسمينْ، مُحاطٍ بشموعٍ حُمرٍ وخُضرْ، كانَ الماءُ فاتراً فغطستْ به وغَطسَ بها. شعرتْ أنَّ جِلدَها يتبدَّلُ بِجَلَدْ. احْتكَّتْ بصوتِ تراتيلَ كنائسيَّة، كانتْ تحْضرُها برهبةٍ خائنةْ. أغْمضتْ عينيها، جاءها بجناحينِ أبيضينِ يرفرفُ، فرَّت مِنْ نصاعةِ صدرِهِ الذي من حنْطةٍ وسحرْ، صَفَّرتْ تُرتِّبُ شَعْرَها المنْكوشْ على مرآةٍ من زيتْ.

***

زيَّنتْ وجهَها بحَدسٍ، خمَّنتْ أنَّ في قلبِها درباً مُغلقاً فانْفتحتْ تحتَ سطوةِ فضولٍ لا يُضِلُّ. اسْترختْ على تَختٍ تخاذلتْ عليه أحلامٌ مُلوَّنة. ركَّزتْ في بُقعةِ ضوءٍ خَافِتٍ، خَافَتْ مِنْ ذاكرتِها التي مِنْ سينما وأنهارٍ تركضُ. ركضتْ على ساحلهِ الطريْ، طارتْ نحوَ جلالٍ انْجلى، تجَمَّدتْ كتِمْثالْ. سالَ مِنْها سؤالانِ وتعبْ: أرادتْ أنْ تَعْرف لونَ عينيهِ وما تحْملان من خَرْقٍ رَخوْ.

***

كانَ نهاراً لا يَهْجرُ مراياهْ، يدخلُ متاهاتِ الصراخِ الذي يُرادفُ صمتهُ، كانَ جسدُهُ نارَ الشِّعرْ، كُلَّما مرَّتْ ريحٌ عليهِ تحمَّلتْ بعطورٍ أنواعها شتّى، لكنَّ صمتَ المدى سكنَ روحَهُ، بينَ بياضٍ يُغْريه وسوادٍ ينْفعِلُ، كانتْ المسافةُ التي تكمُنُ فيها حريَّتهُ. تحرَّتْ عن قوَّةٍ يتباهى بِها، حينَ يرقِّصُ صمتهُ على صراخٍ في البياضْ.

***

رأتْ أنَّ اللغةَ اتجاههُ، تجاهلتْ معرفةَ أنَّ يومهُ ممرٌّ يمدِّدُ نارهُ في حديقةٍ لا تَعْشقُ إلا ذاتها، رأتْ أنَّ يدها الغجريَّة تُصافحُ ضوءَ يديه الخشبيتين وتنقبضُ خارجةً من الماءِ على انفراجٍ غريبْ. تركتْ قدميها تخرجُ مُشبَّعةً بالملحِ الجامحِ نحوَ أمواجِ كمنجاتٍ حزينةٍ كما تعرفْ، عَرِفَتْ أنَّ الماءَ يحِنُّ إلى سكونٍ فيما كائناتٌ أسطورية تزِنُّ في سماءه، انسابتْ لصُدفةٍ لا تُجيدُ البوحَ للأشياء بعشقٍ مفتوحٍ على كلِّ الاحتمالاتْ.

*****

بدأتْ تفقدُ هدوءَ حزنِها، ورَّطتْها السجائرُ في فراغاتٍ أكثرَ من تحمل أضلعها لنيكوتين غيابٍ وبُعدٍ أزليّْ. للحظةٍ كانت قرونْ؛ رأتْ أنَّ السكينة تتنازلُ وتمنحُها ورداً أكثرْ. رأتْهُ صلباً على صليبِ الرُّوحْ، يبعثُ نوراً من نبضِ قلبٍ دمعُهُ مجروحْ، لم يتَّسِعْ عرشاً لخطيئةٍ ليلُهُ بأنفاسِها يبوحْ، مكثتْ في عزلِتها تغزلُ خلاصاً قُربَ حياةٍ بلا مَعني.

***

جالتْ في مجراتِ دوامةٍ فيها أخذتها نحوَ أعماقٍ تُتوِّهُ آهةً حافيةً غارقةً في غروبٍ فيه مساءينِ مرتبكينِ لغيابٍ تسيلُ مياهُهُ غسقْ، صفَّقَتْ عندَ بابِ اللحنِ ناسجةً ما يرسمهُ بكاءْ، رأتهُ يتعالى بعينيهِ عن شارعٍ فقدَ شُعورهُ، كانَ يتألمْ ويُلمْلمُ شظايا حُلمِهِ فيما قصورُ روحهِ تنهارُ في نهارِ جسده.

****

جَسَّدَتْ ما اختارتْهُ من انْهزامْ، أَغلقتْ النوافذَ، أَسْدلتْ الستائرَ، تنازلتْ للموتِ عن آخرِ وردةٍ تفتَّحَتْ في صباحِها، رأتْ في سَكْرَتِها أنَّ لغتَهُ انْشَلَّتْ، تلاشتْ صورهُ، ترقَّى بصمتِهِ،

[كلُّ

شيءٍ ينتهي]

..هذا آخرُ ما قد قيلْ!!

***

 

(٢)

 

مدىً بينَ رئتيهْ

كُنْتِ سَفراً يُغادِرُهُ، ناراً تَسكنُهُ، قُدرةً غريبةً تُرقِّصُ أَمْكِنةً ساكِنةً فيهِ، تَمُرِّينَ صاْمِتةً كأسْئلةْ. تُؤجِلينَ ظلالَ تحيَّةٍ. كُنْتِ وجْهاً عصيّاً على الحقائقْ.

***

صعْباً كانَ، غامضاً، منْسيّاً كحرفٍ سَقَطْ. تَخْتبرُهُ الليالي في بلادٍ تَشْتعلُ بِمُكْرٍ. لمْ يُوحِّد عيناهُ في عينيكِ الساحرتين، الحزنُ كانَ مسْألةَ حياةٍ تهذي في طقوسٍ تودِّعُ طَعْماً مألوفاً أدركَهُ.

***

رأيتِ شامةً، تمتَّعتِ مُداعبةً فكرةً جميلةً أُضيئتْ في مساءٍ مُنْفَعِلْ. قهقهتِ. تكهْربَ جسدُهُ، ركضَتْ في دمِهِ غزلانٌ ظمآنةْ، اتْسعتْ غابةٌ على نهرٍ للهفةٍ فَتَّتتْ صمتاً سكنَهُ، كأنَّهُ احْتلالٌ قاتلَ، كأنَّكِ سماءٌ أَرْعدتِ، كنتِ بحراً، لمْ يكنْ نبيّاً ذا عصا، كانَ السحرُ موسيقىً تُشكِّلُ كلَّ ما اشْتهاهْ، تُهْتِ في اللحظةْ، وجهكِ طلَّ _ بعرقٍ ينزُّ _ عليه، ارْتَبكتِ كاتبةً جسدَهُ طفْلاً يتراقصُ في رحمِ أغنيةْ. كانَ يستمعُ، يُقاومُ بكاءً ونُعاسْ.

 

***

جِئتِ حتى شرقَ قصبٍ مبْحوحْ، ضعتِ فيهِ كضبعٍ عاشقٍ مجروحْ بس، كانَ يرعى قطيعَ نيرانٍ تُنيرُ قلباً كَفَّ عنْ صَمتِهِ، رأيتِ المدنَ مِنْ على غيمةٍ تتأرجحُ ولا تبوحْ، انْخفضَ قلبُكِ كراحةٍ لا بدَّ منْها عندَ ارتفاعٍ للرُّوحْ على بابِ لذَّةٍ في سريرٍ من حريرٍ وزيوتْ.