كتب

“دار خولة” لبثينة العيسى: تفكك سردي وغياب تام للعلاقات السببية

غلاف دار خولة
منصة انزياحات

في العمل الجديد للكويتية بثينة العيسى الموسوم بـ “دار خولة” نقف منذ الفصل الأول أمام معضلة فصل الراوي العليم عن صوت أحد شخصيات السردية القصيرة ألا وهو صوتُ الأم، فعلى الرغم من وضوح قصدية الراوي العليم لدى العيسى إلا أنه متورطٌ إلى حدّ بعيد في نشر ثقافة المؤلفة واستعراضاتها المعرفية وحتى مشاعرها المرسلة، إذ تبدأ سردها بهذه العبارة: “الأمرُ الذي تكرههُ خولة أكثر من الشَّيخوخة هو التَّصابي، والأمر الذي تكرهُهُ أكثر من التَّصابي هو أمريكا. ” ص4،

وهي مشاعر وأفكار مرسلة لأنها لن تستوفيها بعد ذلك في أي جزء من العمل الكتابي المفكك، فكراهية أميركا ليستْ مبررة، رغم أنها تشير في أماكن متفرقة إلى الدور الإيجابي للجيش الأميركي في تحرير الكويت، ثم إلى جودة التعليم في المدرسة الأميركية في الكويت، وهي إشارات مضادة تماماً للفكرة التي بدأت بها نصها، ثم هناك إشارات إلى التغريب، دون أن تتعمق في الفكرة أو تبرر انقلاب بطلة العمل إلى النقيض. وهذه، إذا تجاوزنا أسلوب الكتابة عبر الراوي العليم المشوّش، هي أول ملاحظة على المتن، أو محتوى الرواية، فهي تشير إلى العديد من القضايا دون أن تبررها، أو توجد لها علاقات سببية ترتبط بحدث العمل السردي المختزل أصلاً، فالشيخوخة والتصابي وعلاقة الأم بأولادها وقضية وجود مثقفة في مجتمع محافظ وطريقة تلقي مجتمع شرقي لظهور امرأة على التلفزيون والتعبير عن رأيها، كلها تشبه قضية كراهية أميركا المعلنة منذ بداية النّص، جميعها مجرد خواطر عابرة لا ينتظمها بناء سردي، ولا تستوفيها الكاتبة، ولا توجد لها علاقات سببية، جميعها تتآزر في خلق مذكرات مشوّشة لا تهدف إلى شيء محدد، ولا يصل القارئ من خلالها إلى فكرة عامة للنص أو وحدة موضوعية لكتابته.

أيضاً، هناك الحشو المعرفي المهول في سردية “دار خولة”، من أسماء كتب إلى أماكن إلى دول إلى مؤلفين إلى شعراء وموسيقيين، الحشو المعتسف من اليابان وحتى أميركا الجنوبية، ومن القطب الجنوبي وحتى أقاصي القطب الشمالي، وهو في غالبه مجرد استعراض ثقافي لمعرفة يصعب، لمن ليست لديه موهبة السرد، أن يجعلها جزءاً من متن عمله السردي، فعلى سبيل المثال، سنجد أن حديث بطلة السرد عن المبالغة في مجتمعها، على لسان الراوي العليم المرتبك الذي يكاد يذوب تحت ضغط صوت خولة، سينقلنا إلى هيروشيما وبيرل هاربر بلا مبرر منطقي: “تعرف خولة أنَّ المبالغة ليست اختراعًا أمريكيًّا، «لكنها قطعًا استفحلت هناك، منذ أن كانت هيروشيما هي الرد على بيرل هاربر».

حتى حبة الـ ٥ غرام من الميلاتونين لم تنفع “ص8، وهذه الانتقالات الخالية من المنطق متعددة بتعدد الاستعراض للحصيلة المعرفية للكاتبة، فعشاء العائلة الكويتية يحيلها إلى عيد الشكر الأميركي: “ستحظى خولة أخيرًا بعشاء عائليٍّ، مثل «أسرة سعيدة في فيلمٍ هوليوودي عن عيد الشُّكر»، وأحسَّت بالتناقض ينخر عظامها وهي تقرُّ بأنَّ تلك الصُّورة البرَّاقة لعائلةٍ أمريكية تتبادل الأنخاب حول ديكٍ روميٍّ محمَّر، بكنزات خريفية وكؤوس كريستالية شبه ممتلئة بالنبيذ، تعجبها ” ص9، وتربية الأبناء سيكون معيار نجاحها الاطلاع على الآداب والموسيقى العالمية: “خذوهم واجعلوهم بيضًا بقدر الإمكان! بقدرِ الإمكان!»، هذا ما كانته خولة وقتها، أمًّا طموحة بقراطيس جديدة، ترتشفُ الزلال السُّكريّ الذي تقطُّره أمريكا في فمِها، وتتخيّل أبناءً فارقين: يقرءون الصخب والعنف لفوكنر وأوراق العشب لوايتمان، يعشقون إدغار ألان بو، ويعزفون الجيتار ” ص33، والأمثلة على الحشو المعرفي غير المبرر كثيرة.

ثم هناك المسلّمات المعرفية التي ترد وكأنها من أبجديات التفكير المنطقي، كالربط بين التصابي والتأمرك، والذي يأتي على شكل قرار من خولة: ❞‫في صباح ذلك اليوم، قرّرت خولة أنَّ «التَّصابي والتَّأمرك أمران متلازمان»، والحقُّ أنها تجد التَّأمركَ ممزوجًا بكل ما لا تحبُّه” ص4، كما قررت أن تشيخ بكرامة في ضوء مسلّمة جديدة غريبة حول الشيخوخة وربطها بالإذلال: “قرَّرت أن تشيخ بكرامةٍ، رغم أنَّ «الشَّيخوخة في جوهرها إذلالٌ وئيد». “ص5، تلك الشيخوخة التي سنجد أنها صفة لسيدة في الخامسة والخمسين من عمرها فقط: “وتتساءل «إن كانت الشَّيخوخة والوحدة أمرين متلازمين»، لكنها لم تصبح عجوزًا ميؤوسًا منها، ليس بعدُ، فهي ما زالت قادرة على صعود الدَّرج متظاهرةً بأنَّ قلبها لم ينخلع من مكانه “ص7، تلك الشيخوخة التي ترد أيضاً من خلال ربط ساذج بين الشيخوخة والوحدة، وتعميمه.‬‬‬

ثم هناك التشبيهات الغرائبية، كالخشونة الترابية للصوت: “قد ينتبه البعض إلى الخشونةِ الترابية في صوتِها، ” ص4، أو الجحش المجتر، أو الأم التقليدية بين القدور، أو مختبر الشعوذة لوصف المطبخ: ❞حاولت أن تُماطل في كل شيء، لتعيشَ بقدر الإمكان دورَ الأمِّ التقليدية بين القدور، مع ابنها الذي يعضعضُ سيقان الكزبرة «مثل جحشٍ مُجتر»، وأملت أن يقدِّر الجهد الذي بذلته في تنسيقِ المطبخ وإن بدا مثل مختبرٍ للشعوذة ” ص26، والأمثلة لا حصر لها في هذا الجانب في عمل سردي قصير.

ثم هناك الحديث عن الثقافة العربية، وذهنية المثقف العربي بالعموم، فالنمذجة صناعة عربية: ❞هزَّت كتفيها، قال إنه سيتأخر. وهنا تمتمَ ناصر: Typical، مفخِّمًا اللام ومخففًا الباء كما ينبغي. لو عرَّبت خولة المعنى لبدا أجنبيًّا في كل الأحوال، «كم هو نموذجي!»، وتساءلت إن كانت النمذجة اختراعًا غربيًّا، وفي محاولة لالتماس عذرٍ لأصغر أولادها قالت ” ص29، وأن تلك الثقافة، وخاصة المستمدة من الشعر العربي القديم، هي الحصانة ضد التصابي!: “أحسَّت بهشاشة مفاجئة، أمام زوجها أستاذ الأدب العربي، بدفاتره الجلدية المليئة بالشعر، وحلمه الأزليِّ بكتابة الشعر، ومكتبته المكوَّنة من الشعر ومن أجله، والذي ضمّخ جلدها بأبيات كعب بن زهير والمنخل اليشكري وعمر بن أبي ربيعة، الذي بفضله -فقط- صارت محصَّنة ضد التصابي، لأنها صدقت أنها «هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة»، وأنها «الكاعب الحسناء ” ص34.

أما معرفة أين تكمن عقدة الرواية ومحورها، فلا شك أنها دارت حول لقاء تلفزيوني قديم، لكن القارئ سيخرج منه بأم، ومثقفة، ضد الجميع ومع الجميع، ولن يصل إلى سببية مقنعة لكل ذلك الحدث الذي يتم تضخيمه دون الولوج إلى مسبباته الحقيقية لتبريرها: “لم يكن للأمرِ علاقة بما حدث قبل سبعِ سنوات، أو بمواقفها «العلنية المخزية»، وحديثها -الذي بدا كوميديًّا للجميع باستثنائها هي- عن تحوُّل «الهُويَّات إلى موادَّ مُتحفية»، وكل تلك الاستعارات التي سكَّتها لتتحوَّل إلى «ميمات» وملصقات ومصادر ترفيه لشعب يعاني” ص22، لهذا فإن ما نتج عن هذه السفسطة كان كل شيء، والشيء ونقيضة، كحال السردية “دار خولة” تماماً، التي تدين أميركا، وتتحدث بإعجاب عنها في ذات الوقت: “كان الوضع غير محتمل، خاصَّة عندما بلغ الأمر حدَّ تكفيرِها من قِبَل الإسلاميين، واتهامها بالـ «السلفية الفكرية» من قِبَل الليبراليين ” ص47، وهي إلى ذلك تحاول شرح المشكلة، فنقع معها في مشكلة أكبر: “أحسَّت يومها بأن المذيع بالكاد سمح لها أن تغادر مساحة البداهة وتبدأ في قول الأشياء المهمة، لكنها اليوم تنكصُ إلى مرحلة ما قبل البداهة، فكل شيءٍ تقوله يمكن أن يتحول إلى مسخرة “ص67-66، فما هي مرحلة ما قبل البداهة؟!. ولعل أمر ما قبل البداهة يشبه بداهة خولة في وصف معدة برامج تتصل بها، فقط تتصل بها، بأنها نطاطة: “عندما اتصلت بها المُعِدَّة قبل أيام -فتاة «نطَّاطة ولحوح» اسمها رندة- قالت إنَّ برنامج «تفاصيل»، بخلاف البرامج التي سبق لها الظهور فيها”ص10.

ثم إن هناك الانفعالات غير المبررة، بين أفراد عائلة أرادت أن تصور تباعدهم وتنافرهم، لكنها لم تقدّم لذلك بأي مبررات منطقية، فالصراع محسوم سلفاً، والغضب على أشده، دون عرض منطقي لخلفياته سوى محاولات باهتة، أوصلت الابن الأكبر إلى مخاطبة أمه بوقاحة: “ارتسمت نصف ابتسامةٍ على وجهه، جريحة ومكسورة، ونظر إلى عينيِّ خولة وسألها: ‫- إنتي ليش مصدقة إنـﭻ أم؟ ‫انتصبت خولة ومدَّت سبّابتها إلى وجهه، خرج صوتها ضاريًا: ‫- أنا أم غصبٍ عليك! ” ص105، وهو الابن الذي نشأ فيما يقرب من نصف عمره خارج المنزل، لكنه رجل شرقي يحاول أن يسيطر على أمه، في عبارة غير منطقية، وخارج السياق تماماً، هذا لو افترضنا وجود سياق أصلاً سوى توضيح رأي الكاتبة في الرجل الشرقي: “ولو كانت خولة أكثر ذكاءً بقليل، لعرفتْ أن يوسف «هو الأكثر سُمِّيَّة في هذه العائلة»، وأنه يهيمنُ عليها مثل أي رجلٍ شرقيٍّ، وأنَّ كلَّ شيءٍ يفعله هو ضمان ألا تتحرك خارج المربّع الذي رسمه لها، أي خارج المطبخ. “ص99، ثم إن هذا الصراع العائلي الفنتازي جعل الابن الأوسط يصف الأخ الأكبر بأقذع الصفات بعد عشاء عائلي اشتمل على جميع أنواع الانفعالات “النطاطة” بلا مبررات أو علاقات سببية أو انتقال ولو شبه منطقي: “أراد ناصر أن يغادر، لكن يوسف بدأ يهزُّ كتفيه مثل راقصة شرقية، مطقطقًا بأصابعه وهو يردّد: «اختلاف الودّ.. الودّ، الودّ، الودّ»، و«السَّح الدَّح إمبو»، ما جعلَ ناصر يصبُّ عليه سبابًا قاذعًا، حتى أنَّه قال لأخيه -بالإنجليزية- يا ابن العاهرة..”ص100، وهو الصراع الذي سيشتمل على السخرية والتهديد بالقتل، وكل ما يمكن تخيله من انفلات انفعالي لا يتم التقديم له ولا تبريره: “⁠.. وبعد رشقاتٍ متبادلة من الشتائم صاحَ ناصر: «إنت على شنو مصدّق نفسك!»، وأجاب يوسف بأنّه «مصدّق نفسه» لأنّه يعرف الأصول، وعنده «شوية سنع» ولأنه «يحشم أمه»، ولا يبدو رأسه مثل «البروكلي». وأجاب ناصر بأنَّ كنّاس الشوارع له قيمة ” ص101.‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وأخيراً، ذكّرتني سردية “دار خولة” بمقولة ميلان كونيرا عن بعض الكتابات الرديئة، حين قال: “بعض الكتابات هي إنكار لوجود الهُراء”، فالسردية القصيرة “دار خولة” تصرّ حتى آخر سطر منها على أن تكون سردية الهراء المتراكم، وإلا فكيف يمكن تفسير وجود وصف لسمكة ميّتة بأنها “سمكة ميتة جدّا”!!: “كانت السمكة طافية على بطنها، ميتة جدًّا، لا تتحرَّك فيها زعنفة واحدة.. ” ص118، سوى أننا أمام سرد مهلهل، كُتب ليتم حشوه بالمفردات المعرفية الثقافية، والقضايا العديدة المفككة، وهي المعضلة التي يبدو أن العيسى لم تتخلص منها منذ إصدارها الأول الذي صنّفته كرواية: “ارتطام لم يُسمع له دويّ”، إلى آخر القائمة.