تلفظ بعضها الشوارع والخطى.. ليست ميتة تماما الوجوه التي تتلفت.. العيون.. لا أميزها.. مسحت وجهي : ميتة..؟! مغرورة..؟! لم أعد أدري ما هو الفرق بين الموت والغرور….
“……
“……..
– من هي أريد أن أعرف من هي هذه المغرورة..؟
ابتلعت لساني أصحح له سرا: قل: “الغبية” وأرافقه في السلم، وأرافق شتائمه….- ما اسمها..؟
تفحص الاسم كثيرا، قلب اللقب بين أنيابه:- من أي منطقة هي..؟ سأريها حجمها..!!
كان حجمه أكبر من قدرة الفول الفخارية بشيء بسيط.. جسمه المترهل كان أيضا يسب ويشتم.. عيناه تجلسان فوق رفين خارجين.. ويصيح ويمشي وأمشي معه:- هل يعقل هذا.. هل يوظفون مجانين..؟
لا يرى في وجهي تعبيرا، يخرج ورقة الأمر الفخم وأهز رأسي دون كلام : بلى انه جميل.. أسلوبه جميل ومبتسر؛ لغته مقطرة، من يكتب له هذه الأيام..؟ يجذب في الورقة صوتي.. لن يسمعه الآن:- مجنونة أليس كذلك..؟
– قل: أليستْ كذلك..!!
– سأضع عقلها في رأسها؛ سأكسره ..!!
هززت له رأسي موافقة ودخلت معه حجرة ـ مكتب المديرة.. كانت فيها ثلاث طاولات مكتبية متشابهة، وجهه.. عيناه الجالستان على رفين يزداد خروجهما.. كانتا تبحثان عن مكتب المديرة.. استوقفني في اتجاهي إلى مكتبي، استوقفتني زجرته.. تفاديت حبات الفول وأنا أؤكد له أنه مكتبها.. تراجع قليلا لما تأكد أنني التي يبحث عنها.. تراجع ليندفع رشاشه الكلامي.. إذا كان القانون قد أجابه؛ فإنني أجبته.. فقط أشرت للتمريرات التي عليه ـ المرسوم الجمهوري ـ وتوقيعي:
– أنا أيضا مررتها.. اذهب إلى الشئون القانونية.. سيحلون مشكلتك هذا موسم الفتاوى…. إن لم تجد فتوى جاهزة؛ سيفصلون لك فتوى بلون الأمر الذي معك.. أعرف أنها ستمر لكن ليس عبري..
– بل عبرك..
نظرت إليه .. لماذا عبري..؟ قرأت على جبينه نعلا .. تحسست جبيني.. بل عبرك..!! بلدي..!! هذا الاستعمار بلدي مثل السمن والبيض والبترول.. بلدي.. والبلدي غالي .. كل بلدي عالي الكلفة حتى شواخ البهايم.. انتبهي ـ قلت لي في صوت نصف مسموع ـ في هذا الاستعمارالـ… بلدي.. ليس المهم إنجاز المعاملة .. الإنجاز المهم هو الذل.. شهوة أن ندهس وبأقدامنا نحن.. اللعنة على كل آلهة الاستعمار الدستوري. أخيرا بادأته؛ أن لدي حلا.. بدت على قسماته أعلام النصر الفاقعة واستعجلني بهدوء المنتصر .. جئته بحلي:
– يوقع أحد رؤسائي على هذه الـ (مروا..) بالموافقة صراحة.. وأضعها في الجدار هنا؛ أعلى مكتبي؛ كأي فرمان أو تعميم لتنفذ بموجبه كل الحالات الشبيهة بالأسوة .
عادتْ أجزاؤه تطيش منه.. وقف.. هل سيبدأ الهجوم..؟ تلفت حولي كان على جانبي شخصان.. على الأرجح أنهما كانا مجرد مكتبين يجتهدان في عملهما على غير عادة.. وما يحدث أمامهما كان مشاهدة تلفازية غير جديرة بالالتفات.. عاودت النظر إلى (القدرة) لم أجد أمامي سوى (كرش) كان قد اقترب كثيرا.. عيناي تدبان في (كرش) وهو يصيح:
– من تظنين نفسك.. تقفين أمام السيل..؟!!
لم أنهض.. لم أسحب عيني عن كرشه.. أسمعته صوتي كانت أغنية ما تتردد: – قشة.. أنا قشة ترتفع كلما علا السيل..
…. حطّم أبواب المكاتب الـ (عليا) كلها لم يجد أحدا.. الجميع غادر لم يتبق إلا موظفي الدرجة الثالثة.. و… قشة..
ظللت أغني” قشة” طيلة النهار..
كانت لهذه الشهوة لذة انتحارية، شعرت بعطرها.. لمستها.. وزعتها على تلك الحالات التي عجزت مرارا عن إقناع القانون باستحقاقها.. دعوتهم من كل المحافظات القريبة والنائية.. بعضهم باسمه.. بأوراقه التي لم تزل في درج مكتبي.. بدموعه التي كادت تهطل أمامي.. بعضهم بشيخوخته التي صفعتْ القانون في وجهي عشرات المرات..
كانوا هاهنا.. في باب مكتبي يجلسون؛ لا يجدون ثمن مبيتهم لليلة واحدة في صنعاء؛ لتلقي ردّ طلابتهم: لا حق لكم؛ بموجب القانون..! ناديتهم: تعالوا جميعا.. تلك العجوز التي قبّلتْ لي يدي:”أنت طيبة.. افعلي شيئا من أجلي” تبت يد القانون؛ قلت لها.. أنت طيبة؛ شللتِ يدي. تعالي..! تعالوا جميعا..!! انظروا..! لقد هربوا جميعا.. لقد صال وجال؛ لم يجد منهم أحدا؛ لا مديرا ولا وكيلا ولا نائبا ولا وزيرا.. تعالوا وانظروا لهذا المبنى نظيفا.. ما من حارس واحد على أي باب..
كل الذين أوصدوا في وجوهكم الأبواب هربوا.. هربوا من تلويحة صغيرة.. تعالوا لوحوا.. تعالوا دكوا القانون في الأبواب؛ ستنفتح جميعها.. تعالوا لوّحوا.. تعالوا.. تعالوا.. هشوا عن وجوهكم الذباب…..
……”
……….. في ذلك الوقت؛ لم أكن قشة كما ادعيت..
قديما؛ كنت أحمل قدمي حين ترتفع الطريق وأضعها على الرف..
لم أعد قشة. كثيرا ما أشفقتْ علي أمي لثقلي.. كانت تضطر لاستفزازي؛ تعيرني بالطريق التي اخترتها تقول أنها من (حق الرجال)
اشتغلت كثيرا على نسونتي بكل الطرق.. لم تكن المرأة عندها إلا زوجة.. أو زوجة. وصل إلحاحها حدّ البكاء.. وأبكي: يا أمي.. حرّمتُ على نفسي البغاء.. الزواج لمجرد الإعالة بغاء شرعي.. لا يكفي “بسم الله” ليصبح الحرام حلالا.. الظلم عدلا.. إننا نضع “بسم الله” على كل الأوراق والمشانق ثم يحاسبنا إذا توفتنا الملائكة ظالمي أنفسنا…..إنه……إننا……
وتظل أمي تلح وتسألني مهما شرحت لها حدود الله: “على مَ كبْرك؟!……