كتب

بلاد القائد”:الثورة الحقيقية ليست مجرد حدث سياسي!

 

رواية تقارب علاقة المثقف بالسلطة وتكشف آليات الهيمنة”.

 

فتحي أبو النصر

 

 

 

في أدب علي المقري، نجد دائما عمقا في التناول السياسي والاجتماعي للقضايا المعاصرة. روايته “بلاد القائد” هي واحدة من تلك الأعمال التي تعكس براعة الكاتب في تقديم مزيج من السخرية والتراجيديا ضمن إطار روائي يمزج الواقع بالخيال بطريقة فريدة. الرواية تتصدى لواحدة من أكثر الثنائيات حضورا في الفكر السياسي والأدبي عبر العصور: العلاقة المتوترة بين المثقف والسلطة، تلك العلاقة التي تجمع بين التناقض والاحتياج المتبادل، وبين السعي للاستقلالية والانخراط في اللعبة السلطوية.

 

النص كبنية سردية: تناقض المثقف والسلطة

 

في رواية “بلاد القائد” تتجلى هذه الثنائيات بشكل دراماتيكي من خلال بطل الرواية “علي”، الروائي الفقير الذي يُستدرج للمشاركة في كتابة سيرة القائد، وهو “الملهم” الذي لا يشبه في شيء عباقرة التاريخ، ولكن قوته تكمن في قدرته على الهيمنة والسيطرة على النخبة، بما فيهم المثقفون. المقري ينسج من خلال هذا الإطار الروائي نموذجا فريدًا عن دور المثقف في الأنظمة الاستبدادية، حيث يُجر المثقف إلى حضن السلطة، إما بسبب الطمع في المال أو الشهرة أو حتى من خلال الحاجة الإنسانية الملحة، كما يحدث مع بطل الرواية الذي يقبل هذا الدور جزئيا لإنقاذ زوجته المريضة.

 

المقري، بأسلوبه الذكي، يجعلنا نتساءل: هل المثقف قادر حقا على مقاومة الإغراء السلطوي؟ أم أنه ينزلق بسهولة في فخاخ البراغماتية؟ هذه الأسئلة تتردد على لسان الراوي نفسه، الذي يجد نفسه محاصرا بين القيم الأدبية التي يؤمن بها، وبين الحاجة المادية والاجتماعية التي تدفعه إلى القبول بالمشاركة في مشروع كتابة سيرة القائد.

 

رواية بين السخرية والفاجعة

 

تُعتبر “بلاد القائد”رواية تجمع بين السخرية المريرة والتراجيديا الوجودية، حيث يرسم المقري من خلالها صورة معقدة للمثقف في ظل الأنظمة الاستبدادية. المثقف، الذي يسعى دائمًا للحفاظ على استقلاليته، يجد نفسه محاصرا بين حاجاته الشخصية ومغريات السلطة. هذه الرواية ليست فقط نقدا للأنظمة السياسية، بل هي أيضًا استكشاف للعلاقة المعقدة بين المثقف والمجتمع، وبين الفرد والقوى التي تحاول السيطرة عليه.

 

 

السخرية كتقنية سردية: التناقض بين السلطة والمثقف

 

إحدى أبرز سمات رواية “بلاد القائد” هي استخدام السخرية كوسيلة للتعبير عن التناقضات. القائد، الذي لا يتمتع بأي من الصفات القيادية الحقيقية أو الفكرية، يوصف بأنه “الملهم” و”المفكر”، ولكن هذه الصفات لا تعدو كونها غطاء لتبرير السيطرة والاستبداد. هنا يستخدم المقري السخرية ليكشف عن عقم هذه الأنظمة التي تعتمد على تلميع صورة الحاكم بشكل كاريكاتوري. هذه السخرية لا تستهدف فقط الحاكم، بل تتجاوز إلى المثقفين الذين يرضخون لهذه الهيمنة ويشاركون في تعزيزها.

 

بطل الرواية “علي” يجد نفسه في موقف مشابه، حيث يختلط إعجابه المزعوم بالقائد مع مصالحه الشخصية. ولكن ما يزيد من حدة السخرية هو موقف ابنة القائد “شيماء”، التي تعجب برواياته وتطلب منه الزواج سراً، في تداخل ساخر بين حياة المثقف الخاصة والسياسية، حيث يصبح الزواج مظهرا آخر من مظاهر التورط في السلطة.

 

التراجيديا في ظل الثورة والفوضى: السقوط الجماعي

 

الرواية لا تقتصر فقط على استعراض العلاقة بين المثقف والسلطة، بل تأخذ منحى أعمق حينما تحدث الثورة. الثورة التي يقودها الشعب ضد القائد لا تأتي بوصفها خلاصا، بل تتحول إلى فوضى حيث ينقلب “الكل ضد الكل”، في مشهد تراجيدي يوضح لنا أن الثورة لا تؤدي بالضرورة إلى التغيير المنشود، بل قد تكون بداية للدمار والفوضى.

 

هنا، يقدم المقري تراجيديا وجودية تُظهر أن النظام الاستبدادي لم يكن سوى واجهة لفساد عميق ينخر في المجتمع. الثورة التي كان من المفترض أن تجلب الحرية تتحول إلى صراع آخر على السلطة، حيث يسقط الجميع في شباك العنف والانتهازية.

 

الكاتب واللغة: بلاغة الأسلوب وعمق الرؤية

 

من الناحية الأسلوبية، يبرز علي المقري كواحد من أبرز الكتاب العرب الذين يجمعون بين العمق الفكري والجمال الأسلوبي. في “بلاد القائد”، يستخدم لغة قوية ومشحونة بالرمزية، حيث تمزج بين السخرية والجدية، وبين الواقعية والخيال. المقري لا يعتمد فقط على السرد المباشر، بل يستخدم تراكيب لغوية معقدة، ويُدخل القارئ في عالم مليء بالإيحاءات والرموز.

 

هذه الرموز ليست فقط انعكاسا للوضع السياسي، بل تمتد إلى تناول مفهوم السلطة بشكل عام. القائد، الذي يمثل الاستبداد بكل معانيه، ليس مجرد شخصية سياسية، بل هو رمز للهيمنة الاجتماعية والثقافية التي تتغلغل في كل جوانب الحياة.

 

إيحاءات الثورة والثقافة: نقد للواقع العربي

 

يمكن قراءة “بلاد القائد” كرمز لأزمات المجتمعات العربية التي تتأرجح بين الاستبداد والثورة. في العديد من الدول العربية، نجد نفس الصراع المتكرر: المثقف الذي يسعى للبقاء خارج قبضة السلطة، ولكنه يجد نفسه مجبرًا على التعاون معها بشكل أو بآخر. والثورة التي تنطلق لتغيير الواقع، ولكنها تنتهي بالفوضى.

 

من خلال هذه الرواية، يقدم المقري نقدا لاذعا للواقع العربي، حيث يبرز المثقف كضحية للنظام، ولكن في نفس الوقت كجزء من هذا النظام. المثقف هنا لا يُصور كمنقذ، بل كجزء من مأساة أكبر تتعلق بتداخل المصالح والشخصيات.

 

بلاد القائد” كمحاكاة للسير الذاتية السياسية:

 

انعكاسات الواقع في الرواية

رواية “بلاد القائد” تعتمد على محاكاة السير الذاتية السياسية بشكل ساخر، حيث يعمل فريق من المثقفين والكتاب على كتابة سيرة القائد. ولكن هذه السيرة ليست سوى محاولة لتلميع صورة الزعيم بطريقة مبالغ فيها. هذه المحاكاة تعكس بشكل واضح كيفية بناء السلطة لصورتها عبر التلاعب بالخطاب الثقافي والأدبي. الكاتب هنا ليس مجرد مؤرخ، بل يصبح أداة في يد السلطة لتزوير الحقائق وإعادة تشكيل التاريخ بما يخدم أهدافها.

 

يظهر هذا الجانب بشكل جلي في شخصيات الرواية، بدءا من بطل الرواية “علي”، الذي يُستغل في كتابة هذه السيرة، وصولاً إلى الشخصيات الأخرى مثل الشاعر “محمدين” الذي يمثل النخبة المثقفة المتورطة في خدمة النظام. هذه الشخصيات تعكس واقع المثقف العربي الذي يجد نفسه في مفترق طرق بين مبادئه الشخصية ومتطلبات الحياة اليومية التي تدفعه نحو الانخراط في مشروعات مشبوهة.

بلاد القائد”، بكل عمقها الفكري وأسلوبها البلاغي، تظل علامة فارقة في الأدب العربي المعاصر، وتستحق القراءة والتأمل لكل من يبحث عن فهم أعمق للعلاقة بين الأدب والسياسة.

 

الثورة الحقيقية ليست مجرد حدث سياسي

 

علي المقري، من خلال “بلاد القائد” يُظهر لنا أن الثورة الحقيقية ليست مجرد حدث سياسي، بل هي ثورة على الذات، وعلى الإغراءات التي قد توقع الإنسان في فخاخ السلطة. هذا العمل الأدبي يفتح بابا للنقاش حول دور المثقف في المجتمعات الاستبدادية، وحول جدوى المقاومة في عالم تسيطر عليه القوة والنفوذ.