كتب

احمد زين في ” فاكهة للغربان”..فشل الثورات الوطنية في حماية مكتسباتها

 

 

فتحي أبو النصر 

 

 

“تأتي الرواية كنوع من المحاكمة الرمزية للتاريخ”

 

كل الشخصيات تشترك في تجربتها الجماعية مع الخيبة.

 

 

أحمد زين “فاكهة للغربان” يمارس نقداً قوياً للتاريخ السياسي والاجتماعي للمنطقة”

……….

في مشروعه الروائي، يعتمد الروائي اليمني المتميز احمد زين ،على سرد قوي ومتماسك، يكشف فيه عن حقائق تتجاوز السطحية المعتادة في سرد الأوضاع التاريخية، ليستهدف بالأساس كشف الزيف والأخطاء التي ارتكبتها الحركات الوطنية، محولا هذا النقد إلى قوة دافعة لفهم أعمق لمعنى الوطن والثورة.

ففي رواية”فاكهة للغربان” يعيد أحمد زين رسم ملامح مدينة عدن، تلك المدينة التي لطالما كانت ملتقى الأيديولوجيات والثوار من مختلف المشارب السياسية. بعد انتهاء الاحتلال، تصبح عدن ساحة تجمع كافة التناقضات الإنسانية، بين أحلام الشعوب التي تكاد تتجاوز قدرة المدينة على التحمل، والواقع المرير الذي يعايشه سكانها، لتتحول المدينة إلى مكان تضيع فيه الحدود بين النضال والانكسار، وبين الحلم بالأمل واليأس، وبين اليوتوبيا الطوباوية والمؤامرات التي تُحاك خلف الكواليس.

 

 

مآس فردية وجماعية

 

زين، بأسلوبه السردي المميز، يرسم لوحة تنبض بالحياة والصراع؛ فتتحول عدن إلى مسرح يجتمع فيه المهمّشون، الثوريون، وأصحاب الأفكار اليسارية، متداخلين مع تيارات فكرية متصارعة من بلدان مختلفة. تأتي شخصيات الرواية، من العراق، فلسطين، الجزائر، وغيرها، حاملة معها مآسيها الفردية والجماعية، لتعيش في عدن بين الاضطرابات والآمال الكبيرة.

 

في جوهر الرواية، نرى نقدا عميقا لتجارب حركات التحرر الوطني التي فشلت في ترجمة الأحلام الثورية إلى واقع ملموس، وفضحت محدودية قدرتها على تأسيس دول قوية تحقق العدالة. يُصور زين ذلك من خلال الغراب الذي يكرر ظهوره في السرد، رمزاً للسخرية من الانهيارات المتتالية للثورات. الغراب، الذي يأتي كعنوانٍ ومضمونٍ للرواية، يعكس صراع الثوار مع أنفسهم ومع أحلامهم التي لم يستطيعوا حمايتها من الانقسام والصراعات الداخلية، فتركوا فاكهة الثورة لتتساقط في متناول الغربان.

 

بهذا السياق، تبرز “فاكهة للغربان” كرواية لا تتوقف عند رصد الأحداث التاريخية فحسب، بل تغوص في الأعماق الإنسانية لتسبر غور أحلام الناس، مخاوفهم، وحاجتهم الدائمة للبحث عن وطن لا تلتهمه الأطماع والخلافات. الرواية تتجاوز حدود السرد السياسي لتصبح رحلة نفسية وفلسفية عن معنى النضال والوطنية في عالم يسوده الغموض والخذلان.

 

العمل الأدبي متعدّد الطبقات

 

في “فاكهة للغربان، يتجاوز أحمد زين الحكاية السردية المباشرة ليقدم ذلك العمل الأدبي متعدّد الطبقات، يعتمد فيه على الرمزية والنوستالجيا لخلق علاقة خاصة بين القارئ والنص. عدن، التي تعدّ بطلة القصة الأساسية، ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي رمز لصراع الأجيال وتطلعاتها نحو الحرية. هذا الصراع بين الحلم الثوري والواقع المرير يتجلى في المدينة التي تجمع تحت سمائها شخصيات من خلفيات فكرية وسياسية متنوعة، ما يجعلها مساحة محايدة لكنها في نفس الوقت مثقلة بالآلام والتناقضات.

 

الغراب كرمز مركزي

 

الغراب في هذه الرواية لا يظهر فقط كطائر عابر، بل يُستخدم بشكل متكرر في السرد ليصبح رمزاً لمآسي الثورة وخيبات الأمل. من المعروف أن الغراب يرتبط عادةً في الأدب بالحزن والفقد، وفي هذا السياق، يعكس الغراب تدهور الطموحات الثورية التي عاشتها شخصيات الرواية. كما يمكن فهم هذا الطائر على أنه يمثل التهديد الداهم للأحلام التي تغذت عليها الحركات الثورية، إذ ينذر بقدوم الموت المعنوي للأفكار والمبادئ التي كانت تحملها الأجيال.

بهذا الأسلوب المتماسك واللغة الغنية، يثبت أحمد زين أنه أحد أبرز الأصوات الروائية اليمنية في الوقت الراهن، ويقدم عملاً يمكن أن يكون جزءاً من الأدب العربي المعاصر الذي لا يقتصر على وصف الأحداث، بل يذهب إلى ما هو أبعد، مستكشفاً المعاني الخفية وراء التجارب الإنسانية والسياسية.

حينما يُظهر زين الغراب كعنصر حاضر في المشاهد المختلفة، فإنه يُشير إلى فشل الثورات الوطنية في حماية مكتسباتها، ليصبح الغراب مرآة تعكس الفوضى والخراب الذي حلّ بالمدينة وبالثوار أنفسهم. بمعنى آخر، يشير الغراب إلى أن ما كان يفترض أن يكون “ثماراً للثورة” قد تحول إلى فاكهة مريرة، تتساقط للغربان التي تنهشها، كما تنهش الأحلام والآمال.

 

المدينة كمنصة للقاء الأفكار والتناقضات

 

في عدن، تتعايش الشخصيات التي قدمت من مختلف البلدان العربية، ليصبح اللقاء بينهم تجسيداً حياً لتنوع الخلفيات الفكرية والسياسية. هذا التعدد الأيديولوجي يُكسب الرواية طابعا كونيا، حيث لا تقتصر الصراعات على المدينة وحدها، بل تمتد لتكون صراعات فكرية عابرة للحدود. من العراق، فلسطين، الجزائر، ومناطق أخرى، تجد الشخصيات نفسها في مواجهة مباشرة مع ماضيها وحاضرها، كلٌّ يحمل معه إرثه الخاص من الفقد والخيبة.

 

لكن على الرغم من هذا التنوّع، فإن كل الشخصيات تشترك في تجربتها الجماعية مع الخيبة، حيث يجمعها الفشل في تحويل أحلام الاستقلال والتحرر إلى واقع ملموس. هذا الفشل يجعل من الرواية مرآة لحركات التحرر الوطني التي، رغم إيمانها بقدرتها على تغيير الأوضاع، اصطدمت بجدران الواقع القاسي المتمثل في الفساد الداخلي والتدخلات الخارجية.

 

النقد السياسي والاجتماعي

 

أحمد زين “فاكهة للغربان” يمارس نقداً قوياً للتاريخ السياسي والاجتماعي للمنطقة، إذ يكشف عن العيوب التي شابت مشاريع التحرر الوطني. عبر شخصيات الرواية، يتم تسليط الضوء على الأخطاء التي ارتكبتها النخب السياسية، والتي فشلت في التمسك بمبادئها الثورية أمام مغريات السلطة والفساد. من هنا، تأتي الرواية كنوع من المحاكمة الرمزية للتاريخ، حيث يتم إعادة قراءة الأحداث والقرارات التي اتخذت في تلك الفترة بطريقة نقدية حادة.

 

وفي الوقت ذاته، لا يخلو النص من نقد اجتماعي عميق، حيث يُظهر زين كيف أن الانقسامات الطبقية والسياسية كانت من العوامل التي ساهمت في تعميق الجروح داخل المجتمع. عدن، المدينة التي كان يفترض أن تكون مهد الثورة والحرية، تصبح مكاناً محاصراً بين قوى متصارعة، تفقد هويتها تدريجياً، وتتحول إلى ساحة للتآمر والصراعات الشخصية، بدلاً من أن تكون رمزاً للوحدة والتضامن.

 

أسلوب السرد والاستبطان

 

يعتمد أحمد زين في هذه الرواية على أسلوب سردي يمزج بين الحوارات الداخلية والمذكرات الشخصية، ما يجعل النص ينبض بالحياة والتوتر النفسي. الشخصيات، رغم أنها تعيش في خضم الأحداث الكبرى، تجد نفسها في مواجهة دائمة مع مشاعرها الداخلية، ما يضفي بعدا نفسيا عميقا على الرواية.

 

نورا، التي تسرد مذكراتها لصلاح، تمثل أحد أهم الأصوات في الرواية، حيث تقدم سردا ذاتيا يتداخل مع استطرادات صلاح. هذا التداخل بين الأصوات المختلفة يخلق نوعا من الحوار الداخلي، الذي يعكس التعقيدات النفسية والذهنية التي تعيشها الشخصيات، ويتيح للقارئ فرصة استكشاف الدوافع والأفكار التي تقف وراء تصرفاتها.

 

كما أن استخدام تقنية المذكرات يمنح النص طابعا حميميا وشخصيا، يجعل القارئ يشعر بأنه جزء من حياة الشخصيات، يتتبع تطوراتها وتحولاتها النفسية عن قرب. هذا النوع من السرد يمنح الرواية إحساسازبالصدق والعفوية، لكنه في الوقت نفسه يترك مجالاوللتأمل الفلسفي حول معنى النضال والحرية.

 

احمد زين والمشروع الروائي الناضج

 

في “فاكهة للغربان”، يصل زين إلى مستوى جديد من النضج الأدبي، حيث يقدم رواية متعددة الطبقات، تمزج بين الواقعية والرمزية، وبين التاريخ والسياسة، في عمل يعكس رؤيته العميقة لتجربة اليمن والعالم العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال. كذلك لا يمكن فهم “فاكهة للغربان” دون وضعها في سياق المشروع الأدبي العام لأحمد زين. هذا الكاتب اليمني الذي تميز بقدرته على المزج بين الواقع السياسي والاجتماعي والرمزية الأدبية، يسعى في أعماله إلى تقديم قراءة عميقة للتاريخ من خلال الشخصيات والحكايات الفردية. رواياته السابقة، مثل “تصحيح وضع” و”قهوة أمريكية” و ” حرب تحت الجلد”..تعكس أيضا اهتمامه الكبير بالقضايا الإنسانية، وتأثير التحولات السياسية على الأفراد.

 

***

أحمد زين، (مواليد 1968 في مدينة الحديدة) كاتب وصحفي يمني يعيش حاليا في الرياض، حيث كان يعمل كمدير تحرير مجلة الفيصل السعودية وكان سابقا يعمل في مكتب صحيفة الحياة اللندنية في المملكة. له أربع روايات ومجموعات من القصص القصيرة. وصلت روايته فاكهة للغربان (والتي تؤرخ للحكم البريطاني في عدن) إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية للعام 2021. تُرجمت فصول من رواياته وعدد من قصصه إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والروسية.