نقول في أدبياتنا “اسودّت الدنيا” في عيني شخص إذا فقد الرجاء، و”يومه أسود” عندما تكثر المصائب، ونقول “الكتاب الأسود” إذا ضمّ جرداً للنقائص، و”القلب الأسود” حين يمتلئ بالضغينة والحقد، ثم “السواد الأعظم” عندما نعبّر عن الغالبية من الناس في استعارة لتراكم السحب واكفهرار الأجواء، و”السوق السوداء”، و”المال الأسود”..
في اللغة العربية ولغات العالم أجمع، تحيل كلمة الأسود على الجنائزي الحزين، ولا تحيل إلا قليلاً على الاحتفالي. إنه يرتبط بالحزن واليأس والإحباط وغياب القانون.
الأسود في الغالب يحمل معانٍ سلبية، لأنه وبكل بساطة، لا يعكس النور، بل يحلّ محل الغياب، كما تشرح الفيزياء ويفسّر علم الألوان، فهو لا يعدّ لوناً، كونه لا يوجد ضمن ألوان الطيف السبعة.
لكن “الأسود المظلوم” ليس كذلك حين تقتضي المصلحة، إذ يصير لوناً إيجابياً، حينما نستخدمه في التصميم والموضة، وفي الفن والإبداع الصوري، وحين يلبسه القساوسة، ولما يكون حبراً صينياً. وهذا ما يزيل الصفة السلبية الغالبة عليه.
الأسود ليس دائماً أسود
هذا التناقض هو الذي اتجه إليه، بالملاحظة والدرس، ألان باديو، من موقعه كفيلسوف وروائي ومسرحي، وأحد أكثر الفلاسفة الفرنسيين شهرةً في الخارج، وخصوصاً في الولايات المتحدة.
تناول باديو اللون المذكور في كتابه “الأسود، إشراقات لا لون”، الصادر عن منشورات أوترومان الفرنسية (طبعة ثانية 2023 )، وعن دار الساقي بعنوان “الأسود، فلسفة اللالون” (2024).
يقف الكاتب على تجليات هذا التصوّر، وتأثيره على الحياة والإنسان، من أجل إعادة الإشراق واللمعان إلى الأسود، ومحو الداكن منه، ووضعه في نصابه الصحيح، انطلاقاً من تجربته الشخصية، ومن تحليل فلسفي وأدبي رصين.
أول ما يرصده الكاتب مأخوذ من واقعة النوم ليلاً ، وذلك خلال فترة خدمته العسكرية، عندما كان برتبة عريف أول، مكلفاً بإطفاء جمرات الفحم في المدفأة، حتى لا يموت الجنود اختناقاً، ثم الضغط على زر الإضاءة.
يقول في الفصل الأول: “كنت الوصي عن مجيء السواد الجليدي. إطفاء الموقد، وإطفاء الأنوار، وضمان نزول البرد القارس والليل الشاسع، على هؤلاء الشباب الملفوفين في طبقات، لا تعدّ من الأغطية العسكرية الخشنة. كان ذلك واجبي ومهمتي”.
أصل الفكر حبر أسود
من هنا يبدأ كل شيء، ما بين سواد الفحم الذي يقتل، وسواد الليل الذي يجلب الراحة والسكينة، هي تجربة أوردها الكاتب تحت عنوان “الطفولة والشباب”، يبدأ بها ليبني عليها ما سيرصده في الأجزاء الثلاثة الباقية من الكتاب، من تجليات للأسود في ”جدليات السواد”، وفي ”الألبسة”، وفي الفيزياء والبيولوجيا والأنثروبولوجيا.
هكذا يضع لبنة أولى على اعتبار أن المعرفة هي بالأساس معرفة تتناول “خاصّية السواد”، أي لا تكتمل إلا بالتعرّف عليه كرمز ومفهوم ومادة. كما يلعب دوراً حيوياً في مجال التفكير. وهناك علاقة وثيقة الصلة ما بين السواد والتفكير.
يقول باديو: “عندما نكتب نلوّن بالسواد ما لا نعرفه، وما فكّرنا فيه بعقلنا، يتجسد بفضل الحبر الأسود، عبر آلية عملية الكتابة”.
إن كتابة جملة واضحة هو أمر يتضمن الكثير من الإعجاز، فهي تنبثق أنيقة من الحبر اللزج، وتشقّ طريقها بين البقع. “إنه السواد الذي يستخرج المعنى من سواد المادة”.
تجربة الرسام سولاج
إنه المعنى الذي يجده الكاتب متجلياً بشكل آخر في أمثلة أوردها في الرواية والأدب، وخصوصاً في الفن الصباغي، لدى أحد أكبر فناني الرسم المعاصر، الفرنسي بيير سولاج.
هذا الأخير اشتهر باشتغاله القسري طيلة حياته المديدة (103 أعوام)، على كثافة اللون الأسود وإظهار النور داخله (توفي عام 2022).
في الفصل الذي خصّه به، يذكر ألان باديو، كيف جعلنا سولاج نستكشف المعاني اللانهائية للأسود، داخل لوحاته كبيرة الحجم، التي تلهم الرائي بالنظر في ما وراء الصورة، وإدراك مفهوم اللامحدود وغير المكتمل. يقول باديو: “إن جوهر عدم اكتمال الأسود الذي تكشفه لوحات سولاج، يتمثّل في المكتمل كرسم مُنته، لكنه في الواقع غير مكتمل”.
وكأن الأسود يبوح: “أنتم ترونني، لكنكم في الحقيقة لا ترون شيئاً”. وحده الأسود يمنح هذه التجربة الفنية الفريدة، لكل من يأخذ وقته في تأمل الوجود الخالص للأسود، المكتفي بذاته.
الثقوب السوداء
يتجلى السواد في مجال آخر، في الفلك والكون. ويتعلق الأمر بظاهرة الثقوب السوداء، المتميّزة بالغياب المطلق للنور، والحضور الكثيف للمادة.
إنها ترمز بحسب باديو إلى “ما هو ناقصٍ ومفرط في الوقت نفسه. إنها مادّة سوداء تجذب كل شيءٍ إليها، فتخفيه، وبالتالي تسهم في إنتاج العدم، رغم أنها وجود مادي ملموس، لكن لا يُرى. “هي ثقب حقيقي في ميدان العلم والمعرفة، ما يزال غامضاً”، يقول الفيلسوف.
حين اختلق الإنسان العرق الأسود
لكن الأسود الذي يسترعي الانتباه، هو ذاك الذي ابتدعه الإنسان. لما ارتأى أن يحجب أو يمنع أمراً، من خلال تغطيته بالأسود، كما يحدث في عوالمنا العربية مثلاً، حين تُغطى أو تلطخ بالسواد الملصقات، أو في الأفلام أو اللوحات والصور، التي تُعدّ صادمة أو نقيضة للعادات السائدة، وهو أمر كان سائداً في الغرب منذ زمن.
لكن الأسود الأقسى هو ذاك الذي اخترعه الرجل الأبيض، الغربي الأوروبي المنتشي بنهضته بعد العصور الوسطى “المُظلمة السوداء” بالنسبة إليه، إثر خروجه من جغرافيته القارية لاكتشاف قارات أخرى، ومن ضمنها أفريقيا، التي سمّاها بالقارة السوداء.
يلاحظ باديو “العنصرية التي مارسها الغربي، وهمجيته واستئصاله لشعوب واستعباده لأخرى، واصفاً إياها بالدونية وبعدم النقاء والصفاء، بناء على لون بشرتها”.
يعتقد الكاتب “أنه ليس هناك إنسان أبيض ولا أسود، فالسمة المميزة للإنسان، هي أن بشرته تتراوح بين درجات لونية متفاوتة، مع وجود عدد لا حصر له من التدرّجات”.
لماذا هو كذلك، لأن الإنسان ليس مغطّى بالفراء أو الريش، بل هو الكائن الوحيد بطبيعته عارياً، وبشرته تمتلك تنوّعاً في الدرجات اللونية وليس لوناً ثابتاً”، خاتماً بأن “الإنسانية لا لون لها”.
ماذا يتبقى من الليل
بموازاة مع هذه النظرة العنصرية البيضاء، ابتدع الإنسان فلسفة الأنوار، لمحاربة الجهل والإعلاء من إنسانية الإنسان. كما اخترع الإضاءة والمصابيح، وعمّمها في كل مكان، ما جعله يقلص من مساحة الظلام التي تحمل المخاوف والرعب، فتم تحرير الأسود ليصير لوناً آخر، مُخفّفاً من الحمولات السلبية الكثيرة التي رافقته.
على مدى صفحات الكتاب، حاول الفيلسوف الفرنسي أن يعيد الاعتبار للأسود، هذا اللالون، وجعله يومض ويشرق.
لكن لا بد من ملاحظة تبدو هامة، فاللغة ما تزال تحتفظ بنعوتها وأوصافها حياله، ربما لأنها موسوعية الطابع، قاموس جامع شامل؛ وبالتالي تعكس ما يجري. لكن نظرتنا تتغيّر حتما بعد قراءة الكتاب، وهي التي ستسندنا كلما مرّ سواد أمام أعيننا. وقد نستبدل كلمة “حالكة” بأخرى مضيئة.
نقلا عن وكالة الشرق