كتب

ديوان مروان كامل.. ترويض الوحشة

ديوان مروان كامل (موقع المدن)
ديوان مروان كامل (موقع المدن)

يغامر الشاعر اليمني مروان كامل، بالرهان على اللحظة المفتوحة، إذ يلعب بنرد المخيلة كيفما اتفق، ويقنص حظوظه من لا أشياء المخيلة بإتقان. وكغيره من جيل العشرية الأولى للألفية الجديدة، يعتز بخساراته مروضاً الوحشة عبر الاستئناس بالوحشة. ففي مجموعته الأولى “ثغثغة دامية” (160 صفحة من القطع المتوسط عن دار سنابل القاهرة)، نرى استمزاجات العبث والتعالي عليه، كما تتجلى رهانات الكتابة المعجونة بالسردي والشعري، عبر تفاصيل الهموم الكبرى ومهارة عدم الإذعان للنمطية المألوفة التي تفصل الأشكال الأدبية عن بعضها:

“أيها النقاد سأكتب كيفما شئت وسأبتر أصابعكم أن تعرضت لحرف واحد”.

هذا التطرف في إثبات الذات يمكننا أن نقرأه كتسامح لمعرفة الآخر. إلا أنها محاولات الجيل الجديد في اليمن لترتيب الفوضى وبعثرة الأعماق: “لا أريد أن اكتب مأساويتي دون متعة كافية، إذ بإمكاني أن أثرثر بلا نهاية وسيكون التكرار تقليدي ملول أسقط فيه وتسأمون”.

غلاف المجموعة المشاكسة احتوى لوحة للتشكيلي اليمني مراد سبيع تمثل منظر حنظلة الفنان الفلسطيني ناجي العلي، لكن حنظلة اليمني بالرداء التقليدي ورصاصتين جواره وطلقة في الظهر. والحال إن كتابة مروان كامل تجريبية غير منضبطة تراهن على حريتها خارج النسق المعتاد، كما انها ذات خصائص صادمة تعيد تشكل حال الكتابة الشعرية وفقاً لتقنيات الآن عبر تداخل المخيلة والكمبيوتر من ناحية أخرى: “القات الذي ودعته شارداً في المرحاض سمعته يبكي في أحضان الماء الذي يقله إلى البالوعة الجارية”.

 

إنها كتابة طازجة دون إنفاذ المعايير التحريرية الصارمة عليها كونها تنبع من الانفعال التلقائي على “الوورد”، باعتباره معبداً للملاعين المستقبليين هنا-كما اقصد – إنقاذاً للكتابة الشعرية المعاصرة من كل سلطة سوى لا قيود ذروة العولمة ووسطائها مع الأخذ بالاعتبار كل ما تحمله من حساسيات مربكة في هذا السياق الكتابي المتصادم والذائقات الكتابية التقليدية: “سنربط بحجر جوعنا للسعادة

نأكل بؤس القصائد

ونسقينا أغاني

سنجاهد في سبيل الإنسان

ونكون هذه المرة غراباً أبيض

سنثني قابيل عن فعلته ما استطعنا

أو نداري سوءاته في الوقت المناسب”.

 

لذلك يجب النظر إلى تجربة مروان كامل باهتمام كبير. فهناك تمايزات ملفتة في الرؤية والبناء. وهناك التوحد مع تشظيات الذات عبر شطحات رائعة، تجعلنا نكتشف معان أجد، إضافة إلى حالة التياع نقية تحمل دراية عميقة بأحاسيس العزلة وفجائع الشعور واللاشعور:

“ماذا فعلت بالخاطرة؟!

– جاءتني قبل النوم بلحظات فحشدت لها ألف لعنة وغفوت

ماذا فعلت بالقصيدة؟

– تزاحمت الهواجس أثناء الخروج وتشاجَرت مع الصور.. فألغيتها، وأغلقت الباب.

والحلم؟!

– عقدت من اجله صفقة مع الكذب

من تبقى معك إذن؟!

– لم يبقى غيري أنا والله وأمي ودموع تهطل في الفصول الأربعة ومستقبل يلَوح بيافطة حمراء أمامي”.

 

هكذا يحاول الشاعر الشاب ترويض وحوش الكتابة الكاسرة بالتهكم على الذات والكتابة والعالم معاً؛ وهو داخل هذا المدار شديد التوتر يعمل على تحقيق طمأنينته الخاصة بحيث يتمثل وعي الحداثة ومابعد الحداثة بدأب حثيث ضد كل ما يمكن أن يصنف على انه ثوابت، فتأتي كتابته أكثر هوساً، وهي تخوض رهان عذوبة الذات المعذبة التي تجابه كل هذا الوجود الغامض بشفافية أكثر انفتاحاً:

“دائخ من مصيري المتخبط

مُزكم من لفحة الاستيقاظ المفاجئة

غرغرينا الألم تنخر روحي

السكر المرتفع للضياع يمنع آكلي الطمأنينة

أهلوس لا إرادياً وأصرخ فجأة بين النائمين

مليء بحصوات التعثر

سمنة مفرطة من الخيبات

نحيل من فقر حيلة مُدقع

عوادم الحُرقة تخنقني آخر الليل

من الشرود فقدت حاسة السمع

من سطوع الظلمة الزائدة عُميت

من رؤية قُبح المستقبل، قطعت يدي

ومن ارتعاب فمي الفاغر حين ذاك، بلعت لساني

سأُتلف من فيروس الحزن المزمن أنا متأكد”.

 

على أن مروان كامل مواليد 1991 ينجو من معضلة الجماليات الورقية البائدة في الكتابة إذ يتخذ من النت ورشة غير معتادة لكتابته ما فوق الحرة التي تجازف ممتلئة وواثقة من الداخل. فهو مثلاً لا يتأنى في تجسيد عواطفه المندلقة داخل كتابه النثري هذا بقدر ما يظهر مغامراً وجريئاً في دأبه على التظاهر ضد نمطيات كتابية موروثة من اجل إسقاطها، ناضجاً بالطبع بكل ما يحمله وعيه الطفولي من تصورات اسلوبية ووجدانية: “حناجرنا تسقط كل يوم بلا فائدة: الوطن للأنذااااااااال”.

 

كذلك تتمازج مخيلته والتقنية الحاسوبية بشكل ناشط، فإنها تكسر حواجز الممنوعات والمحرمات متمردة على كل شيء حتى على قيمها أحياناً، إلا انها على وجه التحديد تبدو واضحة كتجربة متلاقحة يمكننا ان نقرأ فيها تحولات “جيل ما بعد الألفية”، جيل ثورات 2011 بشكل خاص في ظل تبدلات مرجعيات الكتابة لديهم، إذ لا يتسقون مع الشروط الديكتاتورية أو الأصولية للكتابة التي كانت معتادة قبلاً: “يضطرم فيني حنين لكل شيء… أرغب أن أكون موجوداً في مكان يُفترض أن يكون فيه شاب صغير مثلي، يضع خططه المستقبلية باتزان ويلاحظ نجاح خطواته السابقة ببأس وثقة عالية وركام الفرح إلى حين نهاية المشوار… شرود في المضي إلى لا أعرف أين.. الطموح يصطدم بالأرض والحلم يقاوم بشدة، ويحتضر الأمل المنزوي في ركن الرأس من الأسفل… لا منافذ شاغرة ولا ضوء للإنقاذ.. في حفرة عميقة للعتمة… عمر ينقضي ومجهول، أتمنى أن يحسن معاملتي ولا يقسو… في جُبتي حزن هادئ وتوتر حكيم وعواء منهك من هزيمة سابقة، وفائض حب وقليل أصدقاء”.

 

يبقى الثابت الوحيد لمروان كامل -كما نراه متعدداً في كل أضداده هنا-متمثلاً بحيوية ملفتة لافتتانه العجيب بطيشه الضروري فقط: ”

في الأخير أوهمني بالاستسلام واهرب

اعدو خلفي واسقط في الحال

الحقني بشتيمة ووعيد

اسخر مني بالإصبع الوسطى

واحدث أصدقائي عن المغامرة”.